للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَعَذَابَهُ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، وَأَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَّةً وَحَقًّا بِأَعْمَالِهِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِهِ، وَيُخْرِجُهُ الْعُجْبُ إِلَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْمَدَهَا وَيُزَكِّيَهَا، وَإِنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ وَعَمَلِهِ وَعَقْلِهِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِفَادَةِ وَمِنَ الِاسْتِشَارَةِ وَالسُّؤَالِ فَيَسْتَبِدُّ بِنَفْسِهِ وَرَأْيِهِ، وَيَسْتَنْكِفُ مِنْ سُؤَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا يُعْجَبُ بِالرَّأْيِ الْخَطَأِ الَّذِي خَطَرَ لَهُ فَيَفْرَحُ بِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاطِرِهِ، وَلَا يَفْرَحُ بِخَوَاطِرِ غَيْرِهِ فَيُصِرُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْمَعُ نُصْحَ نَاصِحٍ، وَلَا وَعْظَ وَاعِظٍ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِجْهَالِ وَيُصِرُّ عَلَى خَطَايَاهُ.

فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُجْبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ آفَاتِهِ أَنْ يَغْتَرَّ فِي السَّعْيِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ فَازَ وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ الصَّرِيحُ: نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِطَاعَتِهِ.

بَيَانُ عِلَاجِ الْعُجْبِ عَلَى الْجُمْلَةِ:

اعْلَمْ أَنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ هُوَ مُقَابَلَةُ سَبَبِهَا بِضِدِّهِ، وَعِلَّةُ الْعُجْبِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ، فَعِلَاجُهُ الْمَعْرِفَةُ الْمُضَادَّةُ لِذَلِكَ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِجَمَالِهِ أَوْ قُوَّتِهِ أَوْ نَسَبِهِ وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ إِنَّمَا يُعْجَبُ بِمَا لَيْسَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلٌّ لِفَيَضَانِ جُودِهِ تَعَالَى، فَلَهُ الشُّكْرُ وَالْمِنَّةُ لَا لَكَ إِذْ أَفَاضَ عَلَى عَبْدِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ، وَآثَرَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةٍ وَوَسِيلَةٍ، فَإِذَنْ مَنْشَأُ الْعُجْبِ بِذَلِكَ هُوَ الْجَهْلُ، وَإِزَالَةُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الْمُحَقَّقِ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَعَمَلَهُ وَأَوْصَافَهُ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى نِعْمَةً ابْتَدَأَهُ بِهَا قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا يَنْفِي الْعُجْبَ وَالْإِدْلَالَ، وَيُورِثُ الْخُضُوعَ وَالشُّكْرَ وَالْخَوْفَ مِنْ زَوَالِ النِّعْمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) [النُّورِ: ٢١] .

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ» قَالُوا: «وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَمَهْمَا غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْقَلْبِ شَغَلَهُ خَشْيَةُ سَلْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِهَا، وَأَنَّى لِذِي بَصِيرَةٍ أَنْ يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ، وَلَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِذَنْ هَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْقَامِعُ لِمَادَّةِ الْعُجْبِ مِنَ الْقَلْبِ.

بَيَانُ أَقْسَامِ مَا بِهِ الْعُجْبُ وَتَفْصِيلُ عِلَاجِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا بِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُعْجَبَ بِبَدَنِهِ فِي جَمَالِهِ وَهَيْئَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ صَوْتِهِ، وَيَنْسَى أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِعُرْضَةِ الزَّوَالِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَعِلَاجُ التَّفَكُّرِ فِي أَقْذَارِ بَاطِنِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَفِي آخِرِهِ، وَفِي الْوُجُوهِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَبْدَانِ النَّاعِمَةِ كَيْفَ تَمَزَّقَتْ فِي التُّرَابِ وَأَنْتَنَتْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى اسْتَقْذَرَتْهَا الطِّبَاعُ.

<<  <   >  >>