قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبَ نَجَاتِنَا وَوُصُولِنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
نَعَمْ الْجِبِلَّاتُ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهَا سَرِيعَةُ الْقَبُولِ وَبَعْضُهَا بَطِيئَةُ الْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ قَمْعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَحْوَهَا، وَهَيْهَاتَ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ خُلِقَتْ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ فِي الْجِبِلَّةِ، فَلَوِ انْقَطَعَتْ شَهْوَةُ الطَّعَامِ لَهَلَكَ الْإِنْسَانُ، وَلَوِ انْقَطَعَتْ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لَانْقَطَعَ النَّسْلُ، وَلَوِ انْقَطَعَ الْغَضَبُ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَدْفَعِ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَلَهَلَكَ. وَمَهْمَا بَقِيَ أَصْلُ الشَّهْوَةِ، فَيَبْقَى لَا مَحَالَةَ حُبُّ الْمَالِ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى الشَّهْوَةِ حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ إِمَاطَةَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلِ الْمَطْلُوبُ رَدُّهَا إِلَى الِاعْتِدَالِ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
وَالْمَطْلُوبُ فِي صِفَةِ الْغَضَبِ حُسْنُ الْحَمِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُوَ عَنِ التَّهَوُّرِ وَعَنِ الْجُبْنِ جَمِيعًا. وَبِالْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ قَوِيًّا، وَمَعَ قُوَّتِهِ مُنْقَادًا لِلْعَقْلِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الْفَتْحِ: ٢٩] وَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ، وَإِنَّمَا تَصْدُرُ الشِّدَّةُ عَنِ الْغَضَبِ، وَلَوْ بَطَلَ الْغَضَبُ لَبَطَلَ الْجِهَادُ، وَكَيْفَ يُقْصَدُ قَلْعُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَنْفَكُّوا عَنْ ذَلِكَ، إِذْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ» ، وَكَانَ إِذَا تُكُلِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَا يَكْرَهُهُ يَغْضَبُ حَتَّى تَحْمَرَّ وَجْنَتَاهُ، وَلَكِنْ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُخْرِجُهُ غَضَبُهُ عَنِ الْحَقِّ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٤] وَلَمْ يَقُلْ وَالْفَاقِدِينَ الْغَيْظَ، فَرَدُّ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ إِلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ بِحَيْثُ لَا يَقْهَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْعَقْلَ وَلَا يَغْلِبُهُ، بَلْ يَكُونُ الْعَقْلُ هُوَ الضَّابِطَ لَهُمَا وَالْغَالِبَ عَلَيْهِمَا، مُمْكِنٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ الْخُلُقِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَسْتَوْلِي الشَّهْوَةُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ لَا يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى دَفْعِهَا عَنِ الِانْبِسَاطِ إِلَى الْفَوَاحِشِ، وَبِالرِّيَاضَةِ تَعُودُ إِلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَالتَّجْرِبَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً لَا شَكَّ فِيهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْوَسَطُ فِي الْأَخْلَاقِ دُونَ الطَّرَفَيْنِ أَنَّ السَّخَاءَ خُلُقٌ مَحْمُودٌ شَرْعًا، وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الْفُرْقَانِ: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ فِي شَهْوَةِ الطَّعَامِ الِاعْتِدَالُ دُونَ الشَّرَهِ وَالْجُمُودِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الْأَعْرَافِ: ٣١] وَقَالَ فِي الْغَضَبِ: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الْفَتْحِ: ٢٩] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» .
بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يُنَالُ حُسْنُ الْخُلُقِ عَلَى الْجُمْلَةِ:
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ يَرْجِعُ إِلَى اعْتِدَالِ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَكَمَالِ الْحِكْمَةِ، وَإِلَى اعْتِدَالِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ، وَكَوْنِهَا لِلْعَقْلِ مُطِيعَةً وَلِلشَّرْعِ أَيْضًا. وَهَذَا الِاعْتِدَالُ يَحْصُلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute