للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِهَا، كَمَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ فِي تَصْحِيحِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ غُرُورٌ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا الْحُرُوفُ أَدَوَاتٌ، فَاللُّبُّ هُوَ الْعَمَلُ وَالَّذِي فَوْقَهُ كَالْقِشْرِ لِلْعَمَلِ. فَالْقَانِعُونَ بِهِ مُغْتَرُّونَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَهُ مَنْزِلًا فَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، فَتَجَاوَزَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى لُبَابِ الْعَمَلِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَصَفَّهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْآفَاتِ.

غُرُورُ أَرْبَابِ الْعِبَادَةِ وَهُمْ فِرَقٌ عَدِيدَةٌ:

مِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَعَمَّقُوا حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْعُدْوَانِ وَالسَّرَفِ، كَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ فِي الْوُضُوءِ فَيُبَالِغُ فِيهِ وَلَا يَرْضَى الْمَحْكُومَ بِطَهَارَتِهِ فِي الشَّرْعِ وَيُقَدِّرُ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةَ قَرِيبَةً فِي النَّجَاسَةِ، وَلَوِ انْقَلَبَ هَذَا الِاحْتِيَاطُ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الطَّعَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ بِسِيرَةِ الصَّحَابَةِ؛ إِذْ تَوَضَّأَ «عمر» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ ظُهُورِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَدَعُ أَبْوَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.

وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَسَةُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَدَعُهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَعْقِدَ نِيَّةً صَحِيحَةً عَلَى زَعْمِهِ، وَقَدْ يُوَسْوَسُونَ فِي التَّكْبِيرِ حَتَّى قَدْ يُغَيِّرُونَ صِيغَةَ التَّكْبِيرِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَغْفُلُونَ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَلَا يُحْضِرُونَ قُلُوبَهُمْ وَيَغْتَرُّونَ بِذَلِكَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَيْرٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

وَفِرْقَةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسْوَسَةُ فِي إِخْرَاجِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنْ مَخَارِجِهَا، فَلَا يَزَالُ يَحْتَاطُ فِي التَّشْدِيدَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَتَصْحِيحِ الْمَخَارِجِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ غَيْرُهُ ذَاهِلًا عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ وَصَرْفِ الْفَهْمِ إِلَى أَسْرَارِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْغُرُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْقِيقِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ إِلَّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَمِثَالُ هَؤُلَاءِ مِثَالُ مَنْ حَمَلَ رِسَالَةً إِلَى مَجْلِسِ سُلْطَانٍ وَأُمِرَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَأَخَذَ يُؤَدِّي الرِّسَالَةَ وَيَتَأَنَّقُ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَيُكَرِّرُهَا وَيُعِيدُهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَهُوَ فِي ذَلِكَ غَافِلٌ عَنْ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ وَمُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْمَجْلِسِ، فَمَا أَحْرَاهُ بِأَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ التَّأْدِيبُ وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِفَقْدِ الْعَقْلِ.

وَفِرْقَةٌ اغْتَرُّوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيَهُذُّونَهُ هَذًّا وَرُبَّمَا يَخْتِمُونَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً، وَلِسَانُ أَحَدِهِمْ يَجْرِي وَقَلْبُهُ يَتَرَدَّدُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَمَانِي إِذْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لِيَنْزَجِرَ بِزَوَاجِرِهِ وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، وَيَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَيَعْتَبِرَ بِمَوَاضِعِ الِاعْتِبَارِ فِيهِ، فَهُوَ مَغْرُورٌ يَظُنُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْهَمْهَمَةُ بِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَمِثَالُهُ مِثَالُ عَبْدٍ كَتَبَ إِلَيْهِ مَوْلَاهُ كِتَابًا وَأَشَارَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَلَمْ يَصْرِفْ عِنَايَتَهُ إِلَى فَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِهِ، فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنَّهُ يُكَرِّرُ الْكِتَابَ بِصَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَمَهْمَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَهُوَ مَغْرُورٌ. نَعَمْ تِلَاوَتُهُ إِنَّمَا تُرَادُ لِكَيْلَا يُنْسَى، بَلْ لِحِفْظِهِ، وَحِفْظُهُ يُرَادُ لِمَعْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ

<<  <   >  >>