بِالْخَيْرِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَغْرُورٌ، وَإِنَّمَا مِثَالُهُ مِثَالُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْأَطِبَّاءِ فَيَسْمَعُ مَا يَجْرِي، أَوِ الْجَائِعِ الَّذِي يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَصِفُ لَهُ الْأَطْعِمَةَ اللَّذِيذَةَ الشَّهِيَّةَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَضِهِ وَجُوعِهِ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ سَمَاعُ وَصْفِ الطَّاعَاتِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَكُلُّ وَعْظٍ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْكَ صِفَةً تَغْيِيرًا يُغَيِّرُ أَفْعَالَكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِقْبَالًا قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا وَتُعْرِضَ عَنِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ الْوَعْظُ زِيَادَةُ حُجَّةٍ عَلَيْكَ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ وَسِيلَةً لَكَ كُنْتَ مَغْرُورًا.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ مَدَاخِلِ الْغُرُورِ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ إِذْ لَا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ خَفَايَا هَذِهِ الْآفَاتِ، قُلْتُ: الْإِنْسَانُ إِذَا فَتَرَتْ هِمَّتُهُ فِي شَيْءٍ أَظْهَرَ الْيَأْسَ مِنْهُ وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ وَاسْتَوْعَرَ الطَّرِيقَ، وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ الْهَوَى اهْتَدَى إِلَى الْحِيَلِ وَاسْتَنْبَطَ بِدَقِيقِ النَّظَرِ خَفَايَا الطَّرِيقِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْزِلَ الطَّيْرَ الْمُحَلِّقَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ بُعْدِهِ مِنْهُ اسْتَنْزَلَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْخِرَ السِّبَاعَ وَالْفِيَلَةَ وَعَظِيمَ الْحَيَوَانَاتِ اسْتَسْخَرَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ حِيَلِ الْآدَمِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَمَّهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ فَلَوْ أَهَمَّهُ أَمْرُ آخِرَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا شُغْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْوِيمُ قَلْبِهِ، وَلَمَّا تَخَاذَلَ عَنْ تَقْوِيمِ قَلْبِهِ ظَنَّهُ مُحَالًا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَيْضًا مَنْ صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ وَقَوِيَتْ هِمَّتُهُ، بَلْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُشْرِ تَعَبِ الْخَلْقِ فِي اسْتِنْبَاطِ حِيَلِ الدُّنْيَا وَنَظْمِ أَسْبَابِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَرَّبْتَ الْأَمْرَ فِيهِ مَعَ أَنَّكَ أَكْثَرْتَ فِي ذِكْرِ مَدَاخِلِ الْغُرُورِ فَبِمَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنَ الْغُرُورِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْجُو مِنْهُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَا بُدَّ مِنْهَا:
أَمَّا الْعَقْلُ فَأَعْنِي بِهِ الْفِطْرَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَالنُّورَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي بِهِ يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّ أَسَاسَ السَّعَادَاتِ كُلِّهَا الْعَقْلُ وَالْكِيَاسَةُ.
وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَأَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ وَيَعْرِفَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ثَارَ مِنْ قَلْبِهِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ حُبُّ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الْآخِرَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَبِمَعْرِفَةِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ عَنْهَا، وَيَصِيرُ أَهَمُّ أُمُورِهِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا غَلَبَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ عَلَى قَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَانْدَفَعَ عَنْهُ كُلُّ غَرُورٍ مَنْشَؤُهُ تَجَاذُبُ الْأَغْرَاضِ وَالنُّزُوعُ إِلَى الدُّنْيَا وَالْجَاهِ وَالْمَالِ، وَمَا دَامَتِ الدُّنْيَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْآخِرَةِ، وَهَوَى نَفْسِهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنَ الْغُرُورِ، فَإِذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَبِنَفْسِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ كَمَالِ عَقْلِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَعْنِي الْعِلْمَ بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، فَيَعْرِفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ شُرُوطَهَا فَيُرَاعِيهَا وَآفَاتِهَا فَيَتَّقِيهَا، وَمِنَ الْعَادَاتِ أَسْرَارَ الْمَعَايِشِ وَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ بِأَدَبِ الشَّرْعِ، وَمَا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَمِنَ الْمُهْلِكَاتِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْعَقَبَاتِ الْمَانِعَةِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنَ اللَّهِ الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ فِي الْخُلُقِ، فَيَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute