للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دَرَجَاتُ الْقِيَامِ بِالْإِنْكَارِ:

الْأُولَى: التَّعْرِيفُ، أَيْ تَعْرِيفُ الْمَزْجُورِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مُنْكَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِ، فَلَعَلَّهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُنْكَرٌ تَرَكَهُ، فَيَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِاللُّطْفِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، فَإِنَّ فِي التَّعْرِيفِ كَشْفًا لِلْعَوْرَةِ وَإِيذَاءً لِلْقَلْبِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعَالِجَ دَفْعَ أَذَاهُ بِلُطْفِ الرِّفْقِ فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَلَدُ عَالِمًا وَلَقَدْ كُنَّا جَاهِلِينَ فَعَلَّمَنَا الْعُلَمَاءُ، فَالصَّوَابُ هُوَ كَذَا وَكَذَا. فَيَتَلَطَّفُ بِهِ هَكَذَا لِيَصِلَ التَّعْرِيفُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ، فَإِنَّ إِيذَاءَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَحْذُورٌ، كَمَا أَنَّ تَقْرِيرَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ مَحْظُورٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ يَغْسِلُ الدَّمَ بِالدَّمِ أَوْ بِالْبَوْلِ، وَمَنْ آذَى بِالْإِنْكَارِ فَهَذَا مِثَالُهُ.

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشُّرْبِ أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ.

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ «إِبْرَاهِيمَ» عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٧] وَلَا يُفْحِشُ فِي سَبِّهِ. وَلِهَذِهِ الرُّتْبَةِ أَدَبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَيْهَا إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عَنِ اللُّطْفِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَسْتَرْسِلَ فِيهِ فَيُطِيلَ لِسَانَهُ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.

الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ وَذَلِكَ كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ وَإِتْلَافِ الْمُنْكَرِ الْمُتَمَوَّلِ أَوْ دَفْعِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ. وَلَيْسَ إِلَى آحَادِ الرَّعِيَّةِ إِلَّا الدَّفْعُ، وَأَمَّا الْإِرَاقَةُ وَالْإِتْلَافُ فَإِلَى الْوُلَاةِ وَمَأْذُونِيهِمْ كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.

آدَابُ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ

جُمْلَتُهَا ثَلَاثُ صِفَاتٍ: الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ.

وَأَمَّا الْعِلْمُ: فَلْيَعْلَمْ مَوَاقِعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَقْتَصِرَ عَلَى حَدِّ الشَّرْعِ فِيهِ.

وَأَمَّا الْوَرَعُ: فَلْيَرْدَعْهُ عَنْ مُخَالَفَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا يَحْمِلْهُ عَلَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمَأْذُونِ شَرْعًا غَرَضٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَلِيَكُونَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا فَإِنَّ الْفَاسِقَ يَهْزَأُ بِهِ إِذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى وَيُورِثُ ذَلِكَ جَرَاءَةً عَلَيْهِ.

وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ: فَلْيَتَمَكَّنْ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ وَالرِّفْقِ وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ وَأَسَاسُهُ، وَالْعِلْمُ

<<  <   >  >>