للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَمَّا التَّعْظِيمُ: فَهِيَ حَالَةٌ لِلْقَلْبِ تَتَوَلَّدُ مَعَ مَعْرِفَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: مَعْرِفَةُ جَلَالَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَظَمَتُهُ وَهُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ حَقَارَةِ النَّفْسِ وَخِسَّتِهَا وَكَوْنِهَا عَبْدًا مُسَخَّرًا مَرْبُوبًا حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنَ الْمَعْرِفَتَيْنِ الِاسْتِكَانَةُ وَالِانْكِسَارُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعْظِيمِ.

وَأَمَّا الْهَيْبَةُ وَالْخَوْفُ: فَحَالَةٌ لِلنَّفْسِ تَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَسَطْوَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِ مَعَ قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِهِ ذَرَّةٌ. وَكُلَّمَا زَادَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ زَادَتِ الْخَشْيَةُ وَالْهَيْبَةُ.

وَأَمَّا الرَّجَاءُ: فَسَبَبُهُ مَعْرِفَةُ لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرَمِهِ وَعَمِيمِ إِنْعَامِهِ وَلَطَائِفِ صُنْعِهِ، وَمَعْرِفَةُ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ الْجَنَّةَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْيَقِينُ بِوَعْدِهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِلُطْفِهِ انْبَعَثَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا الرَّجَاءُ لَا مَحَالَةَ.

وَأَمَّا الْحَيَاءُ: فَبِاسْتِشْعَارِهِ التَّقْصِيرَ فِي الْعِبَادَةِ وَعِلْمِهِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِعِظَمِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ بِعُيُوبِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا وَقِلَّةِ إِخْلَاصِهَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْحَظِّ الْعَاجِلِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِعَظِيمِ مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى السِّرِّ وَخَطِرَاتِ الْقَلْبِ وَإِنْ دَقَّتْ وَخَفِيَتْ، وَهَذِهِ الْمَعَارِفُ إِذَا حَصَلَتْ يَقِينًا انْبَعَثَ مِنْهَا بِالضَّرُورَةِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءَ.

فَهَذِهِ أَسْبَابُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَكُلُّ مَا طُلِبَ تَحْصِيلُهُ فَعِلَاجُهُ إِحْضَارُ سَبَبِهِ، فَفِي مَعْرِفَةِ السَّبَبِ مَعْرِفَةُ الْعِلَاجِ، وَرَابِطَةُ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ.

بَيَانُ الدَّوَاءِ النَّافِعِ فِي حُضُورِ الْقَلْبِ

اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَائِفًا مِنْهُ وَرَاجِيًا لَهُ وَمُسْتَحِيًا مِنْ تَقْصِيرِهِ، فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَإِنْ كَانَتْ قُوَّتُهَا بِقَدْرِ قُوَّةِ يَقِينِهِ، فَانْفِكَاكُهُ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ لَا سَبَبَ لَهُ إِلَّا تَفَرُّقُ الْفِكْرِ وَتَقْسِيمُ الْخَاطِرِ وَغَيْبَةُ الْقَلْبِ عَنِ الْمُنَاجَاةِ وَالْغَفْلَةُ عَنِ الصَّلَاةِ. وَلَا يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا الْخَوَاطِرُ الْوَارِدَةُ الشَّاغِلَةُ، فَالدَّوَاءُ فِي إِحْضَارِ الْقَلْبِ هُوَ دَفْعُ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ، وَلَا يُدْفَعُ الشَّيْءُ إِلَّا بِدَفْعِ سَبَبِهِ فَلْتَعْلَمْ سَبَبَهُ.

وَسَبَبُ مَوَارِدِ الْخَوَاطِرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا خَارِجًا أَوْ أَمْرًا بَاطِنًا:

أَمَّا الْخَارِجُ فَمَا يَقْرَعُ السَّمْعَ أَوْ يَظْهَرُ لِلْبَصَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَطِفُ الْهَمَّ حَتَّى يَتْبَعَهُ وَيَنْصَرِفَ فِيهِ ثُمَّ تَنْجَرُّ مِنْهُ الْفِكْرَةُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَتَسَلْسَلُ وَيَكُونُ الْإِبْصَارُ سَبَبًا لِلِافْتِكَارِ. وَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ وَعَلَتْ هِمَّتُهُ لَمْ يُلْهِهِ مَا جَرَى عَلَى حَوَاسِّهِ، وَلَكِنَّ الضَّعِيفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَفَرَّقَ بِهِ فِكْرُهُ. وَعِلَاجُهُ قَطْعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بِأَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ أَوْ لَا يَتْرُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَشْغَلُ حِسَّهُ، وَيَقْرُبَ مِنْ حَائِطٍ عِنْدَ صَلَاتِهِ حَتَّى لَا تَتَّسِعَ مَسَافَةُ بَصَرِهِ، وَيَحْتَرِزَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّوَارِعِ وَفِي الْمَوَاضِعِ الْمَنْقُوشَةِ الْمَصْنُوعَةِ وَعَلَى الْفُرُشِ الْمَصْبُوغَةِ.

<<  <   >  >>