مِنْ ظَالِمٍ، فَالْكَذِبُ فِيهِ وَاجِبٌ، وَكَمَا إِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْحَرْبِ، أَوْ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوِ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ تَعَاشُرُ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا بِكَذِبٍ - فَالْكَذِبُ مُبَاحٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ؛ لِئَلَّا يُتَجَاوَزَ إِلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، قَالَ «ثَوْبَانُ» : «الْكَذِبُ كُلُّهُ إِثْمٌ، إِلَّا مَا نَفَعَ بِهِ مُسْلِمًا أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا» .
بَيَانُ الْحَذَرِ مِنَ الْكَذِبِ بِالْمَعَارِيضِ:
قَدْ نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» . وَإِنَّمَا أَرَادُوا إِذَا اضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ وَلَا التَّصْرِيحُ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ، وَمِثَالُ التَّعْرِيضِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مطرفا» دَخَلَ عَلَى «زياد» ، فَاسْتَبْطَأَهُ، فَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ وَقَالَ: «مَا رَفَعْتُ جَنْبِي مُذْ فَارَقْتُ الْأَمِيرَ إِلَّا مَا رَفَعَنِي اللَّهُ» ، وَكَانَ «مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» عَامِلًا «لعمر» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: «مَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْعُمَّالُ إِلَى أَهْلِهِمْ؟» - وَمَا كَانَ قَدْ أَتَاهَا بِشَيْءٍ - فَقَالَ: «كَانَ عِنْدِي ضَاغِطٌ» قَالَتْ: «كُنْتَ أَمِينًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، فَبَعَثَ» عمر «مَعَكَ ضَاغِطًا؟!» وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ نِسَائِهَا، وَاشْتَكَتْ «عمر» ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا «معاذا» وَقَالَ: «بَعَثْتُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟» قَالَ: «مَا أَجِدُ مَا أَعْتَذِرُ بِهِ إِلَيْهَا إِلَّا ذَلِكَ» فَضَحِكَ «عمر» وَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَقَالَ: «أَرْضِهَا بِهِ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ضَاغِطًا: رَقِيبًا، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى.
وَكَانَ «النخعي» إِذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الدَّارِ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: «قَوْلِي لَهُ: اطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا تَقُولِي: لَيْسَ هَاهُنَا؛ كَيْلَا يَكُونَ كَذِبًا» .
وَمِمَّا تُبَاحُ بِهِ الْمَعَارِيضُ قَصْدُ تَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمِزَاحِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» ، وَقَوْلِهِ لِلْأُخْرَى: «الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ» ، وَلِلْأُخْرَى: «نَحْمِلُكِ عَلَى وَلَدِ الْبَعِيرِ» - كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: قُلْتُ لَكَ كَذَا مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ تَفْهِيمَ الْمَرَّاتِ بِعَدَدِهَا، بَلْ تَفْهِيمَ الْمُبَالَغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ كَذِبًا.
وَأَمَّا مَا يُعْتَادُ التَّسَاهُلُ بِهِ فِي الْكَذِبِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: كُلِ الطَّعَامَ، فَيَقُولُ: لَا أَشْتَهِيهِ، فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: «يَعْلَمُ اللَّهُ» فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute