فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا نَرَى أَحَدًا يَنْفَكُّ عَنِ السُّرُورِ إِذَا عُرِفَتْ طَاعَاتُهُ، فَالسُّرُورُ مَذْمُومٌ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَحْمُودٌ وَبَعْضُهُ مَذْمُومٌ؟ فَنَقُولُ: السُّرُورُ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، فَالْمَحْمُودُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إِخْفَاءَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَأَلْطَافِهِ بِهِ، إِذْ لَا لُطْفَ أَعْظَمُ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ، فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ لَهُ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يُونُسَ: ٥٨] .
وَمِثْلُ أَنْ يَظُنَّ رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفُ بِذَلِكَ أَجْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْعَلَانِيَةِ بِمَا أَظْهَرَ وَأَجْرُ السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا، وَمَنِ اقْتُدِيَ بِهِ فِي طَاعَةٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَعْمَالِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبَ السُّرُورِ.
وَمِثْلُ أَنْ يَحْمَدَهُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ فَيَفْرَحُ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ فِي مَدْحِهِمْ وَبِحُبِّهِمْ لِلْمُطِيعِ وَبِمَيْلِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَهَذَا فَرِحٌ بِحُسْنِ إِيمَانِ عِبَادِ اللَّهِ، وَعَلَامَةُ الْإِخْلَاصِ فِي هَذَا الْوَرَعِ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِحَمْدِهِمْ غَيْرَهُ مِثْلَ فَرَحِهِ بِحَمْدِهِمْ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا السُّرُورُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَقُومُوا بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَيُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ.
بَيَانُ مَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ مِنَ الرِّيَاءِ وَمَا لَا يُحْبِطُ:
إِذَا عَقَدَ الْعَبْدُ الْعِبَادَةَ عَلَى الْإِخْلَاصِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الرِّيَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ، فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَ الْفَرَاغِ سُرُورٌ مُجَرَّدٌ بِالظُّهُورِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ فَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْعَمَلَ، إِذِ الْعَمَلُ قَدْ تَمَّ عَلَى نَعْتِ الْإِخْلَاصِ سَالِمًا عَنِ الرِّيَاءِ، إِلَّا إِذَا ظَهَرَتْ لَهُ بَعْدَهُ رَغْبَةٌ فِي الْإِظْهَارِ فَتَحَدَّثَ بِهِ وَأَظْهَرَهُ، فَهَذَا مَخُوفٌ، وَفِي الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُحْبَطٌ.
وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ وَارِدُ الرِّيَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ وَكَانَ عُقِدَ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ سُرُورٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ رِيَاءً بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ وَخَتَمَ الْعِبَادَةَ بِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ عَمَلٍ خَالِصٍ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالْخَالِصُ مَا لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ.
وَأَمَّا الرِّيَاءُ الَّذِي يُقَارِنُ حَالَ الْعَقْدِ كَأَنْ يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ عَلَى قَصْدِ الرِّيَاءِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حَتَّى سَلَّمَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَقْضِي، وَلَا يُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِ، وَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَاسْتَغْفَرَ وَرَجَعَ قَبْلَ التَّمَامِ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ مَعَ قَصْدِ الرِّيَاءِ فَلْيَسْتَأْنِفْ ; لِأَنَّ بَاعِثَهُ فِي الرِّيَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَنْعَقِدِ افْتِتَاحُهُ فَلَمْ يَصِحَّ مَا بَعْدَهُ.
بَيَانُ دَوَاءِ الرِّيَاءِ وَطَرِيقِ مُعَالَجَةِ الْقَلْبِ فِيهِ:
عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ وَسَبَبٌ لِلْمَقْتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ، وَمَا هَذَا وَصْفُهُ فَجَدِيرٌ بِالتَّشْمِيرِ عَنْ سَاقِ الْجَدِّ فِي إِزَالَتِهِ.
وَفِي عِلَاجِهِ مَقَامَانِ: