يُجَاوِزُ ضَرُورَةَ الْبَدَنِ وَحَاجَتَهُ مَذْمُومٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَمْ يَحْمِلْهُ الْحُبُّ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَعْصِيَةٍ وَمَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى اكْتِسَابِهِ بِكَذِبٍ وَخِدَاعٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، وَمَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى اكْتِسَابِهِ بِعِبَادَةٍ، فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ بِالْعِبَادَةِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ، وَهُوَ حَرَامٌ.
وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ أَنْ يُقَالَ: يُطْلَبُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ مُبَاحَانِ وَوَجْهٌ مَحْظُورٌ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْمَحْظُورُ: فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ قِيَامَ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ صِفَةً هُوَ مُنْفَكٌّ عَنْهَا مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَالنَّسَبِ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ أَوْ عَالِمٌ أَوْ وَرِعٌ، وَهُوَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَلْبِيسٌ إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْمُعَامَلَةِ.
وَأَمَّا أَحَدُ الْمُبَاحَيْنِ: فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَنْزِلَةَ بِصِفَةٍ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا كَقَوْلِ «يُوسُفَ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَا أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّبُّ تَعَالَى: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يُوسُفَ: ٥٥] فَإِنَّهُ طَلَبَ الْمَنْزِلَةَ فِي قَلْبِهِ بِكَوْنِهِ حَفِيظًا عَلِيمًا، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ إِخْفَاءَ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِهِ وَمَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِيهِ حَتَّى لَا يُعْلَمَ فَلَا تَزُولُ مَنْزِلَتُهُ بِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مُبَاحٌ ; لِأَنَّ حِفْظَ السَّتْرِ عَلَى الْقَبَائِحِ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ السَّتْرِ، كَالَّذِي يُخْفِي عَمَّنْ يُرِيدُ اسْتِئْجَارَهُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ وَرِعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي وَرِعٌ تَلْبِيسٌ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِ بِالشُّرْبِ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْوَرَعِ، بَلْ يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِالشُّرْبِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحْظُورَاتِ تَحْسِينُ الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَحْسُنَ فِيهِ اعْتِقَادُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ، وَهُوَ مُلْبِسٌ إِذْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الْخَاشِعِينَ لِلَّهِ، وَهُوَ مُرَاءٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْلِصًا؟ فَطَلَبُ الْجَاهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ وَكَذَا بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلْبِيسٍ فِي عِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ قَلْبَهُ بِتَزْوِيرٍ وَخِدَاعٍ، فَإِنَّ مِلْكَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ مِلْكِ الْأَمْوَالِ.
سَبَبُ حُبِّ الْمَدْحِ وَبُغْضِ الذَّمِّ:
لَا يُعْرَفُ طَرِيقُ الْعِلَاجِ لِذَلِكَ مَا لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ ; لِأَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ لَا يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهُ، إِذِ الْعِلَاجُ عِبَارَةٌ عَنْ حَلِّ أَسْبَابِ الْمَرَضِ.
لِحُبِّ الْمَدْحِ وَالْتِذَاذِ الْقَلْبِ بِهِ أَسْبَابٌ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى شُعُورُ النَّفْسِ بِالْكَمَالِ، وَمَهْمَا شَعَرَتْ بِكَمَالِهَا ارْتَاحَتْ وَاهْتَزَّتْ وَتَلَذَّذَتْ، وَالْمَدْحُ يُشْعِرُ نَفْسَ الْمَمْدُوحِ بِكَمَالِهَا.
السَّبَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَدْحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْمَادِحِ مَمْلُوكٌ لِلْمَمْدُوحِ وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ وَمُعْتَقِدٌ فِيهِ وَمُسَخَّرٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَمِلْكُ الْقُلُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالشُّعُورُ بِحُصُولِهِ لَذِيذٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ثَنَاءَ الْمُثْنِي وَمَدْحَ الْمَادِحِ سَبَبٌ لِاصْطِيَادِ قَلْبِ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِثَنَائِهِ فِي مَلَأٍ فَيَكُونُ الْمَدْحُ أَلَذَّ، وَالذَّمُّ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ. فَأَمَّا الْعِلَّةُ الْأُولَى -