للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كِتَابُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ

فَضِيلَةُ الصَّبْرِ

قَدْ وَصَفَ اللَّهُ - تَعَالَى - الصَّابِرِينَ بِأَوْصَافٍ، وَذَكَرَ الصَّبْرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ مَوْضِعًا، وَأَضَافَ أَكْثَرَ الدَّرَجَاتِ وَالْخَيْرَاتِ إِلَى الصَّبْرِ وَجَعَلَهَا ثَمَرَةً لَهُ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) [السَّجْدَةِ: ٢٤] . وَقَالَ - تَعَالَى -: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النَّحْلِ: ٩٦] . وَقَالَ - تَعَالَى -: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) [الْقَصَصِ: ٥٤] وَقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزُّمَرِ: ١٠] . فَمَا مِنْ قُرْبَةٍ إِلَّا وَأَجْرُهَا بِتَقْدِيرٍ وَحِسَابٍ، إِلَّا الصَّبْرُ، وَوَعَدَ الصَّابِرِينَ بِأَنَّهُ مَعَهُمْ فَقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الْبَقَرَةِ: ١٥٣، وَالْأَنْفَالِ: ٤٦] . وَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ أُمُورٍ لَمْ يَجْمَعْهَا لِغَيْرِهِمْ فَقَالَ - تَعَالَى -: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [الْبَقَرَةِ: ١٥٧] .

وَمِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» .

وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ» .

حَقِيقَةُ الصَّبْرِ وَأَقْسَامُهُ:

اعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ بَاعِثِ الْهَوَى، وَبَاعِثُ الدِّينِ هُوَ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَوَاقِبِ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي بِهَا فَارَقَ الْإِنْسَانُ الْبَهَائِمَ فِي قَمْعِ الشَّهَوَاتِ.

وَبَاعِثُ الْهَوَى هُوَ مُطَالَبَةُ الشَّهَوَاتِ بِمُقْتَضَاهَا، فَمَنْ ثَبَتَ حَتَّى قَهَرَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّهْوَةِ الْتَحَقَ بِالصَّابِرِينَ، وَإِنْ تَخَاذَلَ وَضَعُفَ حَتَّى غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلَمْ يَصْبِرْ فِي دَفْعِهَا الْتَحَقَ بِأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ.

ثُمَّ إِنَّ بَاعِثَ الدِّينِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَاعِثِ الْهَوَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقْهَرَ دَاعِيَ الْهَوَى فَلَا تَبْقَى لَهُ قُوَّةُ الْمُنَازَعَةِ وَيُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِدَوَامِ الصَّبْرِ، وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ: «مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ» وَالْوَاصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هُمُ الْأَقَلُّونَ فَلَا جَرَمَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الْمُقَرَّبُونَ: (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فُصِّلَتْ: ٣٠، وَالْأَحْقَافِ: ١٣] .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَغْلِبَ دَوَاعِي الْهَوَى، وَتَسْقُطُ بِالْكُلِّيَّةِ مُنَازَعَةُ بَاعِثِ الدِّينِ، فَيُسَلِّمُ نَفْسَهُ إِلَى جُنْدِ الشَّيَاطِينِ وَلَا يُجَاهِدُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغَافِلُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَرَقَّتْهُمْ شَهَوَاتُهُمْ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شِقْوَتُهُمْ فَحَكَّمُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)

<<  <   >  >>