بَيَانُ الْمُرَاءَى لِأَجْلِهِ:
اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُرَائِي مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يُرَائِي لِإِدْرَاكِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَلَهُ دَرَجَاتٌ:
أَشَدُّهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّمَكُّنَ مِنْ مَعْصِيَةٍ كَالَّذِي يُرَائِي بِعِبَادَاتِهِ وَيُظْهِرُ التَّقْوَى وَالْوَرَعَ وَغَرَضُهُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْأَمَانَةِ فَيُوَلَّى مَنْصِبًا أَوْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ تَفْرِقَةُ مَالٍ لِيَسْتَأْثِرَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ يُودَعَ الْوَدَائِعَ فَيَأْخُذَهَا، أَوْ يَتَوَصَّلَ إِلَى التَّحَبُّبِ بِامْرَأَةٍ لِفُجُورٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْعِلْمِ وَالتَّذْكِيرِ وَقَصْدُهُ النَّظَرَ لِأَمْرَدَ، فَهَؤُلَاءِ أَبْغَضُ الْمُرَائِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا طَاعَةَ رَبِّهِمْ سُلَّمًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَرِفُ جَرِيمَةً، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا فَيُظْهِرُ التَّقْوَى لِيَنْفِيَ التُّهْمَةَ عَنْ نَفْسِهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ نَيْلَ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ أَوْ نِكَاحِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ، كَالَّذِي يُظْهِرُ الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ لِيُرْغَبَ فِي تَزْوِيجِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ، فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْظُورٌ ; لِأَنَّهُ طَلَبَ بِطَاعَةِ اللَّهِ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ نَيْلَ حَظٍّ وَإِدْرَاكَ مَالٍ أَوْ نِكَاحٍ وَلَكِنْ يُظْهِرُ عِبَادَاتِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَلَا يُعَدَّ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالزُّهَّادِ، وَيُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَامَّةِ، كَالَّذِي يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيُحْسِنُ الْمَشْيَ وَيَتْرُكُ الْعَجَلَةَ كَيْلَا يُقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالسَّهْوِ لَا مِنْ أَهْلِ الْوَقَارِ.
وَكَذَلِكَ يَسْبِقُ إِلَى الضَّحِكِ أَوْ يَبْدُو مِنْهُ الْمِزَاحُ فَيَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَيُتْبِعَ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ وَإِظْهَارِ الْحُزْنِ وَيَقُولُ " مَا أَعْظَمَ غَفْلَةَ الْآدَمِيِّ عَنْ نَفْسِهِ " وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ لَمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ لَا بِعَيْنِ التَّوْقِيرِ، وَكَالَّذِي يَرَى جَمَاعَةً يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ وَيَتَهَجَّدُونَ أَوْ يَصُومُونَ الْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقُونَ فَيُوَافِقُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْكَسَلِ وَيَلْحَقَ بِالْعَوَامِّ، وَلَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَالَّذِي يَعْطَشُ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ فَلَا يَشْرَبُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، أَوْ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَمْتَنِعُ لِيُظَنَّ أَنَّهُ صَائِمٌ، وَقَدْ لَا يُصَرِّحُ بِـ: إِنِّي صَائِمٌ وَلَكِنْ يَقُولُ: " لِي عُذْرٌ "، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ خَبِيثَيْنِ فَإِنَّهُ يُرِي أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ يُرِي أَنَّهُ مُخْلِصٌ لَيْسَ بِمُرَاءٍ، وَأَنَّهُ يَحْتَرِزُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ عِبَادَتَهُ لِلنَّاسِ فَيَكُونَ مُرَائِيًا فَيُرِيدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سَاتِرٌ لِعِبَادَتِهِ، ثُمَّ إِنِ اضْطُرَّ إِلَى شُرْبٍ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ لِنَفْسِهِ فِيهِ عُذْرًا تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا بِأَنْ يَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ يَقْتَضِي فَرْطَ الْعَطَشِ وَيَمْنَعُ مِنَ الصَّوْمِ، أَوْ يَقُولُ أَفْطَرْتُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ فُلَانٍ ; لِأَنَّهُ مُحِبٌّ لِلْإِخْوَانِ شَدِيدُ الرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَعَامِهِ، وَقَدْ أَلَحَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ تَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وَمِثْلَ أَنْ يَقُولَ " إِنَّ أَبَوَيَّ أَوْ أَحَدَهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَيَّ يَظُنَّانِ أَنْ لَوْ صُمْتُ لَمَرِضْتُ فَلَا يَدَعَانِي أَصُومُ، فَهَذَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ آفَاتِ الرِّيَاءِ فَلَا يَسْبِقُ إِلَى الْإِنْسَانِ إِلَّا لِرُسُوخِ عِرْقِ الرِّيَاءِ فِي الْبَاطِنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute