للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَالشَّرَابَ وَهُمَا سَبَبَانِ لِحَيَاتِهَا، فَكُلُّ قَلْبٍ مَالَ إِلَى حُبِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ مَرَضٍ بِقَدْرِ مَيْلِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ أَحَبَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِكَوْنِهِ مُعِينًا لَهُ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى دِينِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرَضِ، فَإِذَنْ قَدْ عَرَفْتَ بِهَذَا قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِالرِّيَاضَةِ، وَهِيَ تَكَلُّفُ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا ابْتِدَاءً، فَتَصِيرُ طَبْعًا، وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ - أَعْنِي النَّفْسَ وَالْبَدَنَ، فَإِنْ كَانَ صِفَةً تَظْهَرُ فِي الْقَلْبِ يَفِيضُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ إِلَّا عَلَى وَفْقِهَا لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَجْرِي عَلَى الْجَوَارِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْتَفِعُ مِنْهُ أَثَرٌ إِلَى الْقَلْبِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ دَوْرٌ.

وَإِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ تَارَةً تَكُونُ بِالطَّبْعِ وَالْفِطْرَةِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِاعْتِيَادِ الْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ، وَتَارَةً بِمُشَاهَدَةِ أَرْبَابِ الْفِعَالِ الْجَمِيلَةِ وَمُصَاحَبَتِهِمْ، وَهُمْ قُرَنَاءُ الْخَيْرِ إِخْوَانُ الصَّلَاحِ، إِذِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ جَمِيعًا، فَمَنْ تَظَاهَرَتْ فِي حَقِّهِ الْجِهَاتُ الثَّلَاثُ حَتَّى صَارَ ذَا فَضِيلَةٍ طَبْعًا وَاعْتِيَادًا وَتَعَلُّمًا - فَهُوَ غَايَةُ الْفَضِيلَةِ، وَمَنْ كَانَ رَذْلًا بِالطَّبْعِ وَاتَّفَقَ لَهُ قُرَنَاءُ السُّوءِ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ، وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الشَّرِّ حَتَّى اعْتَادَهَا - فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ مَنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ هَذِهِ الْجِهَاتُ، وَلِكُلِّ دَرَجَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ صِفَتُهُ وَحَالَتُهُ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النَّحْلِ: ٣٣] .

بَيَانُ تَفْصِيلِ الطَّرِيقِ إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ:

قَدْ عَرَفْتَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي الْأَخْلَاقِ هُوَ صِحَّةُ النَّفْسِ، وَالْمِيلُ عَنِ الِاعْتِدَالِ سَقَمٌ وَمَرَضٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي مِزَاجِ الْبَدَنِ هُوَ صِحَّةٌ لَهُ، وَالْمَيْلُ عَنِ الِاعْتِدَالِ مَرَضٌ فِيهِ، فَلْنَتَّخِذِ الْبَدَنَ مِثَالًا فَنَقُولُ: مِثَالُ النَّفْسِ فِي عِلَاجِهَا بِمَحْوِ الرَّذَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ عَنْهَا وَجَلْبِ الْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهَا مِثَالُ الْبَدَنِ فِي عِلَاجِهِ بِمَحْوِ الْعِلَلِ عَنْهُ وَكَسْبِ الصِّحَّةِ لَهُ وَجَلْبِهَا إِلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَصْلِ الْمِزَاجِ الِاعْتِدَالُ، وَإِنَّمَا تَعْتَرِي الْمَعِدَةَ الْمَضَرَّةُ بِعَوَارِضِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَهْوِيَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُعْتَدِلًا صَحِيحَ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، أَيْ بِالِاعْتِيَادِ وَالتَّعْلِيمِ تُكْتَسَبُ الرَّذَائِلُ. وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُخْلَقُ كَامِلًا، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ وَيَقْوَى بِالنُّشُوءِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالْغِذَاءِ، فَكَذَلِكَ النَّفْسُ تُخْلَقُ نَاقِصَةً قَابِلَةً لِلْكَمَالِ، وَإِنَّمَا تُكْمَلُ بِالتَّرْبِيَةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّغْذِيَةِ بِالْعِلْمِ. وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَشَأْنُ الطَّبِيبِ تَمْهِيدُ الْقَانُونِ الْحَافِظِ لِلصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَشَأْنُهُ جَلْبُ الصِّحَّةِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ النَّفْسُ مِنْكَ إِنْ كَانَتْ زَكِيَّةً طَاهِرَةً مُهَذَّبَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْعَى لِحِفْظِهَا وَجَلْبِ مَزِيدِ الْقُوَّةِ إِلَيْهَا وَاكْتِسَابِ زِيَادَةِ صَفَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَدِيمَةَ الْكَمَالِ وَالصَّفَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْعَى لِجَلْبِ ذَلِكَ إِلَيْهَا. وَكَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَرَضِ لَا تُعَالَجُ إِلَّا بِضِدِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَرَارَةٍ فَالْبُرُودَةُ وَبِالْعَكْسِ،

<<  <   >  >>