كِتَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ فِي الدِّينِ وَالْمُهِمُّ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ لَهُ النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ، لَوْ طُوِيَ بِسَاطُهُ وَأُهْمِلَ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ لَفَشَتِ الضَّلَالَةُ وَشَاعَتِ الْجَهَالَةُ وَخُرِّبَتِ الْبِلَادُ وَهَلَكَ الْعِبَادُ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ أَنْ يَنْدَسَّ مِنْ هَذَا الْقُطْبِ عَمَلُهُ وَعِلْمُهُ، وَأَنْ يَنْمَحِيَ بِالْكُلِّيَّةِ حَقِيقَتُهُ وَرَسْمُهُ، وَأَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى الْقُلُوبِ مُدَاهَنَةُ الْخَلْقِ، وَتَنْمَحِيَ عَنْهَا مُرَاقَبَةُ الْخَالِقِ، وَأَنْ يَسْتَرْسِلَ النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ، وَأَنْ يَعِزَّ عَلَى بِسَاطِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَلَا مَعَاذَ إِلَّا بِهِ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْهِ.
يَنْحَصِرُ هَذَا الْكِتَابُ فِي مَقَاصِدَ:
وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَفَضِيلَتُهُ وَالْمَذَمَّةُ فِي إِهْمَالِهِ.
دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٤] فَفِي الْآيَةِ بَيَانُ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ) أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَلَاحَ مَنُوطٌ بِهِ إِذْ حُصِرَ بِقَوْلِهِ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهِ أُمَّةٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) [التَّوْبَةِ: ٧١] فَقَدْ نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، فَالَّذِي هَجَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ خَارِجٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْعُوتِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الْمَائِدَةِ: ٧٨ وَ ٧٩] وَهَذَا غَايَةُ التَّشْدِيدِ إِذْ عَلَّلَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِلَّعْنَةِ بِتَرْكِهِمُ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِذْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الْأَعْرَافِ: ١٦٥] فَبَيَّنَ أَنَّهُمُ اسْتَفَادُوا النَّجَاةَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّوءِ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [الْمَائِدَةِ: ٢] وَهُوَ أَمْرُ جَزْمٍ، وَمَعْنَى التَّعَاوُنِ الْحَثُّ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَسَدُّ سُبُلِ الشَّرِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute