يُسَمَّى تَكَبُّرًا، وَطَرَفُهُ يَمِيلُ إِلَى النُّقْصَانِ يُسَمَّى تَخَاسُسًا وَمَذَلَّةً، وَالْوَسَطُ يُسَمَّى تَوَاضُعًا، وَالْمَحْمُودُ أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ وَتَخَاسُسٍ، فَإِنَّ:
كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَأَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَاطُهَا، فَمَنْ يَتَقَدَّمْ عَلَى أَمْثَالِهِ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ، وَمَنْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُمْ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ، أَيْ وَضَعَ شَيْئًا مِنْ قَدْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَالْعَالِمُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ دَنِيءٌ فَتَنَحَّى لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَهُ فِيهِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَسَوَّى لَهُ نَعْلَهُ، وَغَدَا إِلَى بَابِ الدَّارِ خَلْفَهُ فَقَدْ تَخَاسَسَ وَتَذَلَّلَ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مَحْمُودٍ، بَلِ الْمَحْمُودُ عِنْدَ اللَّهِ الْعَدْلُ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ بِمِثْلِ هَذَا لِأَقْرَانِهِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْ دَرَجَتِهِ، فَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِلسُّوقِيِّ فَبِالْقِيَامِ وَالْبِشْرِ فِي الْكَلَامِ وَالرِّفْقِ فِي السُّؤَالِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَالسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلَا يَحْتَقِرُهُ، وَلَا يَسْتَصْغِرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ.
بَيَانُ ذَمِّ الْعُجْبِ وَآفَاتِهِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) [التَّوْبَةِ: ٢٥] ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الْحَشْرِ: ٢] فَرَدَّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِعْجَابِهِمْ بِحُصُونِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الْكَهْفِ: ١٠٤] وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى الْعُجْبِ بِالْعَمَلِ، وَقَدْ يُعْجَبُ الْإِنْسَانُ بِعَمَلٍ هُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ كَمَا يُعْجَبُ بِعَمَلٍ هُوَ مُصِيبٌ فِيهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» .
وَقَالَ «ابْنُ مَسْعُودٍ» : «الْهَلَاكُ فِي اثْنَتَيْنِ الْقُنُوطِ وَالْعُجْبِ» وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ وَالْجِدِّ وَالتَّشَمُّرِ، وَالْقَانِطُ لَا يَسْعَى، وَلَا يَطْلُبُ، وَالْمُعْجَبُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدْ سَعِدَ وَقَدْ ظَفِرَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَسْعَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النَّجْمِ: ٣٢] أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهَا بَارَّةٌ، وَقَالَ تَعَالَى: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [الْبَقَرَةِ: ٢٦٤] وَالْمَنُّ نَتِيجَةُ اسْتِعْظَامِ الصَّدَقَةِ، وَاسْتِعْظَامُ الْعَمَلِ هُوَ الْعُجْبُ.
بَيَانُ آفَةِ الْعُجْبِ:
اعْلَمْ أَنَّ آفَاتِ الْعُجْبِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ الْعُجْبَ يَدْعُو إِلَى الْكِبْرِ ; لِأَنَّهُ أَحَدُ أَسْبَابِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْعُجْبِ الْكِبْرُ، وَمِنَ الْكِبْرِ الْآفَاتُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا تَخْفَى، هَذَا مَعَ الْعِبَادِ، وَأَمَّا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُجْبُ يَدْعُو إِلَى نِسْيَانِ الذُّنُوبِ وَإِهْمَالِهَا، فَبَعْضُ ذُنُوبِهِ لَا يَذْكُرُهَا لِظَنِّهِ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَفَقُّدِهَا، وَمَا يَتَذَكَّرُهُ مِنْهَا فَيَسْتَصْغِرُهُ فَلَا يَجْتَهِدُ فِي إِزَالَتِهِ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَالْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ يَسْتَعْظِمُهَا وَيَمُنُّ عَلَى اللَّهِ بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهَا، ثُمَّ إِذَا أُعْجِبَ بِهَا عَمِيَ عَنْ آفَاتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجَبَ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ وَبِرَأْيِهِ وَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute