للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مَخَالِبَهُمْ وَأَنْتَ مَبْهُوتٌ مُتَحَيِّرٌ مِنْ كَثْرَتِهِمْ، إِذْ قَرَعَ سَمْعَكَ نِدَاءُ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غَافِرٍ: ١٧] فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَلِعُ قَلْبُكَ وَتَتَذَكَّرُ مَا أَنْذَرَكَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حَيْثُ قَالَ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إِبْرَاهِيمَ: ٤٢، ٤٣] فَمَا أَشَدَّ تَرَحَكَ الْيَوْمَ بِتَمَضْمُضِكَ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ وَتَنَاوُلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَمَا أَشَدَّ حَسَرَاتِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذَا وُقِفَ بِكَ عَلَى بِسَاطِ الْعَدْلِ وَكُشِفَ عَنْ فَضَائِحِكَ وَمُسَاوِيكَ، فَاحْذَرْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ الْأَلِيمِ. وَاسْتَقِمْ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. فَمَنِ اسْتَقَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَفَّ عَلَى صِرَاطِ الْآخِرَةِ وَنَجَا، وَمَنْ عَدَلَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالْأَوْزَارِ وَعَصَى، تَعَثَّرَ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ مِنَ الصِّرَاطِ وَتَرَدَّى.

الْقَوْلُ فِي أَهْوَالِ جَهَنَّمَ وَقَانَا اللَّهُ عَذَابَهَا

يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ عَنْ نَفْسِهِ، الْمَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ شَوَاغِلِ هَذِهِ الدُّنْيَا الْمُشْرِفَةِ عَلَى الِانْقِضَاءِ وَالزَّوَالِ، دَعِ التَّفَكُّرَ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ. وَاصْرِفِ الْفِكْرَ إِلَى مَوْرِدِكَ، فَإِنَّكَ أُخْبِرْتَ بِأَنَّ النَّارَ مَوْرِدٌ لِلْجَمِيعِ إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مَرْيَمَ: ٧١، ٧٢] فَأَنْتَ مِنَ الْوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ فِي شَكٍّ، فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْرِدِ فَعَسَاكَ تَسْتَعِدُّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ، وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الْخَلَائِقِ وَقَدْ قَاسَوْا مِنْ دَوَاهِي الْقِيَامَةِ مَا قَاسَوْا، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي كُرَبِهَا وَأَهْوَالِهَا وُقُوفًا يَنْتَظِرُونَ حَقِيقَةَ أَنْبَائِهَا وَتَشْفِيعَ شُفَعَائِهَا إِذْ أَحَاطَتْ بِالْمُجْرِمِينَ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ شُعَبٍ وَأَظَلَّتْ عَلَيْهِمْ نَارٌ ذَاتُ لَهَبٍ وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا يُفْصِحُ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيْقَنَ الْمُجْرِمُونَ بِالْعَطَبِ، وَجَثَتِ الْأُمَمُ عَلَى الرُّكَبِ. حَتَّى أَشْفَقَ الْبُرَآءُ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، فَهُنَاكَ تَسُوقُ الزَّبَانِيَةُ الْمُجْرِمَ إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَيُنَكِّسُونَهُ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ، وَيَقُولُونَ لَهُ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، فَأُسْكِنُوا دَارًا يَخْلُدُ فِيهَا الْأَسِيرُ، وَيُوقَدُ فِيهَا السَّعِيرُ: وَشَرَابُهُمْ فِيهَا الْحَمِيمُ، وَمُسْتَقَرُّهُمُ الْجَحِيمُ. شُدَّتْ أَقْدَامُهُمْ إِلَى النَّوَاصِي، وَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْمَعَاصِي، يُنَادُونَ مِنْ أَكْنَافِهَا وَيَصِيحُونَ فِي نَوَاحِيهَا وَأَطْرَافِهَا. يَا مَالِكُ قَدْ نَضِجَتْ مِنَّا الْجُلُودُ. يَا مَالِكُ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنَّا لَا نَعُودُ. فَتَقُولُ الزَّبَانِيَةُ: هَيْهَاتَ لَاتَ حِينَ أَمَانٍ، وَلَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْ دَارِ الْهَوَانِ، فَاخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، وَلَوْ أُخْرِجْتُمْ مِنْهَا لَكُنْتُمْ إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ تَعُودُونَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْنَطُونَ، وَعَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ يَتَأَسَّفُونَ. وَلَا يُنْجِيهِمُ النَّدَمُ وَلَا يُغْنِيهِمُ الْأَسَفُ، يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَتَغْلِي بِهِمُ النَّارُ كَغَلْيِ الْقُدُورِ، وَتُهَشَّمُ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ جِبَاهُهُمْ، فَيَنْفَجِرُ الصَّدِيدُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَلَا يَمُوتُونَ، فَكَيْفَ لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ الْحَمِيمِ، وَأُعْمِيَتْ أَبْصَارُهُمْ، وَأُبْكِمَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكُسِّرَتْ عِظَامُهُمْ، وَمُزِّقَتْ جُلُودُهُمْ، وَلَهِيبُ النَّارِ سَارَ فِي بَوَاطِنِ أَجْزَائِهِمْ، وَحَيَّاتُ الْهَاوِيَةِ وَعَقَارِبُهَا مُتَشَبِّثَةٌ بِظَوَاهِرِ أَعْضَائِهِمْ. هَذَا بَعْضُ

<<  <   >  >>