فِيهَا رُخْصٌ أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ بِهَا "، فَقِيلَ لَهُ: " وَتَفْعَلُ هَذَا "؟ قَالَ: " نَعَمْ إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ قَرْيَةً فِيهَا رُخْصٌ فَأَقِمْ بِهَا فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لِدِينِكَ وَأَقَلُّ لِهَمِّكَ ". وَهَذَا هَرَبٌ مِنْ غَلَاءِ السِّعْرِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: السَّفَرُ هَرَبًا مِمَّا يَقْدَحُ فِي الْبَدَنِ كَالطَّاعُونِ، أَوْ فِي الْمَالِ كَغَلَاءِ السِّعْرِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، بَلْ رُبَّمَا يَجِبُ الْفِرَارُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَرُبَّمَا يُسْتَحَبُّ فِي بَعْضٍ بِحَسَبِ وُجُوبِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوِ اسْتِحْبَابُهُ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى الطَّاعُونُ مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّفَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَذْمُومٍ وَمَحْمُودٍ وَمُبَاحٍ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ حَرَامٌ كَالسَّفَرِ لِلْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ كَالْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِ الطَّاعُونِ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ وَاجِبٌ كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ كَزِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ لِلتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَتَحْرِيكِ الرَّغْبَةِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَاقْتِبَاسِ الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى النِّيَّةِ، فَمَهْمَا كَانَ قَصْدُهُ بِطَلَبِ الْمَالِ مَثَلًا التَّعَفُّفُ عَنِ السُّؤَالِ. وَرِعَايَةُ سَتْرِ الْمُرُوءَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ، وَالتَّصَدُّقُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ مَبْلَغِ الْحَاجَةِ صَارَ هَذَا الْمُبَاحُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ وَبَاعِثُهُ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ".
آدَابُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَوَّلِ نُهُوضِهِ إِلَى آخِرِ رُجُوعِهِ
الْأَدَبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَبْدَأَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَإِعْدَادِ النَّفَقَةِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَبِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَلَا يَأْخُذُ لِزَادِهِ إِلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ، وَلْيَأْخُذْ قَدْرًا يُوَسِّعُ بِهِ عَلَى رُفَقَائِهِ. وَلَا بُدَّ فِي السَّفَرِ مِنْ طِيبِ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَمِنْ إِظْهَارِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالسَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّجَرِ، وَمَنْ أَحْسَنَ خُلُقَهُ فِي الضَّجَرِ فَهُوَ الْحَسَنُ الْخُلُقِ، وَتَمَامُ حُسْنِ خُلُقِ الْمُسَافِرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَكَارِي، وَمُعَاوَنَةِ الرُّفْقَةِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَإِعَانَةِ الْمُنْقَطِعِ بِمَرْكُوبٍ أَوْ زَادٍ، وَتَمَامُ ذَلِكَ مَعَ الرُّفَقَاءِ بِمِزَاحٍ وَمُطَايَبَةٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَمَعْصِيَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ شِفَاءً لِضَجَرِ السَّفَرِ وَمَشَاقِّهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَخْتَارَ رَفِيقًا فَلَا يَخْرُجُ وَحْدَهُ، فَالرَّفِيقُ ثُمَّ الطَّرِيقُ، وَلْيَكُنْ رَفِيقُهُ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الدِّينِ فَيُذَكِّرُهُ إِذَا نَسِيَ وَيُعِينُهُ وَيُسَاعِدُهُ إِذَا ذَكَرَ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ إِلَّا بِرَفِيقِهِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَقَالَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فِي السَّفَرِ فَأَمِّرُوا أَحَدَكُمْ» وَلْيُؤَمِّرُوا أَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا وَأَرْفَقَهُمْ بِالْأَصْحَابِ وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى الْإِيثَارِ وَطَلَبِ الْمُوَافَقَةِ. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْأَمِيرِ لِأَنَّ الْآرَاءَ تَخْتَلِفُ فِي مَصَالِحِ السَّفَرِ، وَلَا نِظَامَ إِلَّا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute