فَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْقِحْفَ وَاللَّحْيَ الْأَعْلَى وَاللَّحْيَ الْأَسْفَلَ، وَالْبَقِيَّةُ هِيَ الْأَسْنَانُ بَعْضُهَا عَرِيضَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّحْنِ، وَبَعْضُهَا حَادَّةٌ تَصْلُحُ لِلْقَطْعِ وَهِيَ الْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ وَالثَّنَايَا، ثُمَّ جَعَلَ الرَّقَبَةَ مَرْكَبًا لِلرَّأْسِ، ثُمَّ رَكَّبَ الرَّقَبَةَ عَلَى الظَّهْرِ، وَرَكَّبَ الظَّهْرَ مِنْ أَسْفَلِ الرَّقَبَةِ إِلَى مُنْتَهَى عَظْمِ الْعَجُزِ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَرَزَةً، ثُمَّ وَصَلَ عِظَامَ الظَّهْرِ بِعِظَامِ الصَّدْرِ وَعِظَامِ الْكَتِفِ وَعِظَامِ الْيَدَيْنِ وَعِظَامِ الْعَانَةِ وَعِظَامِ الْعَجُزِ، ثُمَّ عِظَامِ الْفَخْذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَتَعْدَادُ ذَلِكَ يَطُولُ، فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ نُطْفَةٍ سَخِيفَةٍ رَقِيقَةٍ. وَالْقَصْدُ أَنْ يُنْظَرَ فِي مُدَبِّرِهَا وَخَالِقِهَا: كَيْفَ قَدَّرَهَا وَخَالَفَ بَيْنَ أَشْكَالِهَا وَخَصَّصَهَا بِعَدَدِهَا الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَيْهَا وَاحِدًا لَكَانَ وَبَالًا عَلَى الْإِنْسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى قَلْعِهِ، وَلَوْ نَقَصَ مِنْهَا وَاحِدًا لَكَانَ نُقْصَانًا يَحْتَاجُ إِلَى جَبْرِهِ. ثُمَّ أَمْرُ الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينَ وَعَدَدُهَا وَمَنَابِتُهَا وَانْشِعَابُهَا أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَشَرْحُهُ يَطُولُ. وَكُلُّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ قَذِرَةٍ. فَتَرَى مِنْ هَذَا صُنْعَهُ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ، فَمَا صُنْعُهُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَكَوَاكِبِهَا وَاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَتَفَاوَتِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا! . فَلَا تَظُنَنَّ أَنَّ ذَرَّةً مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ تَنْفَكُّ عَنْ حِكْمَةٍ وَحِكَمٍ، بَلْ هِيَ أَحْكَمُ خَلْقًا وَأَتْقَنُ صُنْعًا وَأَجْمَعُ لِلْعَجَائِبِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ إِلَى عَجَائِبِ السَّمَاوَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النَّازِعَاتِ: ٢٧ - ٢٩] فَارْجِعِ الْآنَ إِلَى النُّطْفَةِ وَتَأَمَّلْ حَالَهَا أَوَّلًا وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَتَأَمَّلْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا لِلنُّطْفَةِ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا أَوْ عَقْلًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ رُوحًا أَوْ يَخْلُقُوا فِيهَا عَظْمًا أَوْ عِرْقًا أَوْ عَصَبًا أَوْ جِلْدًا أَوْ شَعْرًا هَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ؟ بَلْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ حَقِيقَتِهِ وَكَيْفِيَّةَ خِلْقَتِهِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَعَجَزُوا عَنْهُ. فَالْعَجَبُ مِنْكَ لَوْ نَظَرْتَ إِلَى صُورَةٍ تَأَنَّقَ النَّقَّاشُ فِي تَصْوِيرِهَا لَكَثُرَ تَعَجُّبُكَ مِنْهُ، وَأَنْتَ تَرَى النُّطْفَةَ الْقَذِرَةَ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَخَلَقَهَا خَالِقُهَا فِي الْأَصْلَابِ وَالتَّرَائِبِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْهَا وَشَكَّلَهَا فَأَحْسَنَ تَشْكِيلَهَا، وَقَدَّرَهَا فَأَحْسَنَ تَقْدِيرَهَا وَتَصْوِيرَهَا، وَقَسَّمَ أَجْزَاءَهَا الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَأَحْكَمَ الْعِظَامَ فِي أَرْجَائِهَا، وَحَسَّنَ أَشْكَالَ أَعْضَائِهَا، وَزَيَّنَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، وَرَتَّبَ عُرُوقَهَا وَأَعْصَابَهَا، وَجَعَلَهَا مَجْرًى لِغِذَائِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ بَقَائِهَا، وَجَعَلَهَا سَمِيعَةً بَصِيرَةً عَالِمَةً نَاطِقَةً، وَخَلَقَ لَهَا الظَّهْرَ أَسَاسًا لِبَدَنِهَا، وَالْبَطْنَ حَاوِيًا لِآلَاتِ غِذَائِهَا، وَالرَّأْسَ جَامِعًا لِحَوَاسِّهَا.
فَفَتَّحَ الْعَيْنَيْنِ وَرَتَّبَ طَبَقَاتِهَا وَأَحْسَنَ شَكْلَهَا وَلَوْنَهَا وَهَيْئَتَهَا، ثُمَّ حَمَاهَا بِالْأَجْفَانِ لِتَسْتُرَهَا وَتَحْفَظَهَا وَتَصْقُلَهَا وَتَدْفَعَ الْأَقْذَاءَ عَنْهَا، ثُمَّ أَظْهَرَ فِي مِقْدَارِ عَدَسَةٍ مِنْهَا صُورَةَ السَّمَاوَاتِ مَعَ اتِّسَاعِ أَكْنَافِهَا وَتَبَاعُدِ أَقْطَارِهَا فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ شَقَّ أُذُنَهُ وَأَوْدَعَهُمَا مَاءً مُرًّا لِيَحْفَظَ سَمْعَهَا وَيَدْفَعَ الْهَوَامَّ عَنْهَا، وَحَوَّطَهَا بِصَدَفَةِ الْأُذُنِ لِتَجْمَعَ الصَّوْتَ فَتَرُدَّهُ إِلَى صِمَاخِهَا وَلِتُحِسَّ بِدَبِيبِ الْهَوَامِّ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ فِيهَا تَحْرِيفَاتٍ وَاعْوِجَاجَاتٍ لِتَكْثُرَ حَرَكَةُ مَا يَدُبُّ فِيهَا وَيَطُولَ طَرِيقُهُ فَيَتَنَبَّهَ مِنَ النَّوْمِ صَاحِبُهَا إِذَا قَصَدَهَا دَابَّةٌ فِي حَالِ النَّوْمِ. ثُمَّ رَفَعَ الْأَنْفَ مِنْ وَسَطِ الْوَجْهِ وَأَحْسَنَ شَكْلَهُ وَفَتَحَ مَنْخَرَيْهِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ حَاسَّةَ الشَّمِّ لِيَسْتَدِلَّ بِاسْتِنْشَاقِ الرَّوَائِحِ عَلَى مَطَاعِمِهِ وَأَغْذِيَتِهِ، وَلِيَسْتَنْشِقَ بِمَنْفَذِ الْمَنْخَرَيْنِ رَوْحَ الْهَوَاءِ غِذَاءً لِقَلْبِهِ وَتَرْوِيحًا لِحَرَارَةِ بَاطِنِهِ، وَفَتَحَ الْفَمَ وَأَوْدَعَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute