هذان أيضاً قد ادعيا المحبة، ففضحهما شاهد النظر، ولم يجز ادعاؤهما على ذي المعرفة والبصر، وقول إبراهيم: أحب قلبي وما درى بدني محال، لا يعلق القلب، فيسلم الجسم، ولكنه لاستحيائه قد احتج بحجة ضعيفة؛ وأنشدني بعض المشيخة في مثل ذلك:
وقائلة ما بال جسمك سالماً، ... وعهدي بأجسام المحبين تسقم
فقلت لها: قلبي لجسمي لم يبح ... بحبي، فجسمي بالهوى ليس يعلم
[مدح الضمر وذم السمن]
فالعرب تمدح بالضمر وتذم بالسمن وتنسب أهل النحول إلى الأدب والمعرفة، وأهل السمن إلى الفدامة وقلة الفهم. وللفلاسفة والأطباء في ذلك قول يثبت ما ادعت العرب. وزعموا أن من غلب عليه البلغم عظم جسمه، وكثر شحمه ولحمه، وقلَّ فهمه، وطال سباته، وانعقد لسانه لغلبة البلغم على قلبه، واحتواء الرطوبة على لبه. ومن كان أغلب مزاجاته المرة خف جسمه، وقلّ لحمه وذاب شحمه وحسن ذهنه وصح فهمه، لأن النحول علامة المتفرسين، ودلالة المتوسمين، لا يكاد أن تخطئ فيه الفراسة، ولا تكذب فيه العيافة، لما أخبرتك من غلبة أحد المزاجين على صاحبه، وابتناء قراره في مركبه، وربما أنجب السمن وخاب الهزال، ولا يكون ذلك إلا في الفرد الشاذ من الرجال. ومن أمثال العرب في ذلك: البِطنة تذهب الفطنة.
[جميل بن معمر والبطين]
وروي أن جميل بن معمر العذري صحبه رجل من عذرة وكان بطيناً أكولاً، فجعل يشكو إليه هوى ابنة عم له، فأنشأ جميل يقول:
وقد رابني من جعفر أن جعفراً ... ملح على قرص، ويشكو هوى جمل
فلو كنت عذري الهوى لم تكن كذا ... بطيناً، وأنساك الهوى كثرة الأكل