قال: النظرة بعد النظرة، وإن كانت القبلة بعد القُبلة، فهو الوصول إلى الجنّة. فقلت: ليس العشق عندنا كذلك، قال: فما هو عندكم؟ قلت: تفرقُ بين رجليها وتحمل نفسك عليها. فقال: بأبي أنت لستَ بعاشقٍ، إنما أنت طالب ولد.
[ما جاء فيمن تعفف في محبته]
ورعى عقود عهود مودّته
وما وجدنا أحداً من العرب يفعل ذلك، ولا صمد نحوه، وقد كان الواحد منهم يعشق من أول دهره إلى آخره لا يُحاول فِسقاً، ولا يقرب رفثاً، ولم يكن لهم مراد إلا في النظر، ولا حظّ في غير الاجتماع والمؤانسة، والحديث والشعر، كما قال الفرزدق:
وجدتُ الحب لا يشفيه إلاّ ... لقاءٌ يقتل الغُللَ النِّهالا
أُحبّ من النساء، وهنّ شتّى، ... حديث النزْر، والحدقَ الكِلالا
موانعُ للحرام بغير فُحشٍ، ... وتبذل ما يكون لها حلالا
وكان الواحد منهم إذا تعلّق خلّةً لم يفارقها حتى الممات، ولم يشغل قلبه بغيرها، ولم يهمّ بالسلوّ عنها، وقَصَر طرفه عمّن سِواها، وكذلك هي أيضاً كانت له بتلك المنزلة، فأيّهما هلك قبل صاحبه قتلّ الآخرُ نفسه في أثره، أو عاش حافظاً لودّه قائماً بعهده، لا ينسى ذكره، ولا يصل غيره، فاستحسن الناس الملّل والاستبدال، والغدر والانتقال، وصار أشدّهم ظَرْفاً، وأحسنهم يتعشّق السنين الكثيرة، والدهور الطويلة، ويتوهّم بفعله أنه عاشقٌ، فإذا فقد حبيبه يوماً واحداً، استبدل به سواه، ويُنشدن في ذلك: