للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَلِيلَ الصَّبْرِ

يَا عَدِيمَ الْوِفَاقِ , يَا مَنْ سيبكي كثيراً إِذَا انْتَبَهَ وَفَاقَ , وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. أَيْنَ مَنْ أَنِسَ بِالدُّنْيَا وَنَسِيَ الزَّوَالَ , أَيْنَ مَنْ عَمَّرَ الْقُصُورَ وَجَمَعَ الْمَالَ , تَقَلَّبَتْ بِالْقَوْمِ أَحْوَالُ الأَهْوَالِ , كَمْ أَرَاكَ عِبْرَةً وَقَدْ قَالَ {سَنُرِيهِمْ آياتنا في الآفاق} .

أَيْنَ صَدِيقُكَ الْمُؤَانِسُ , أَيْنَ رَفِيقُكَ الْمُجَالِسُ , أَيْنَ الْمَاشِي فَقِيرًا وَأَيْنَ الْفَارِسُ , امْتَدَّتْ إِلَى الْكُلِّ كَفُّ الْمَخَالِسِ , فَنَزَلُوا تَحْتَ الأَطْبَاقِ.

وَكَأَنْ قَدْ رحلت كما رحلوا , ونزلت وشيكاً حيث نَزَلُوا , وَحُمِلْتَ إِلَى الْقَبْرِ كَمَا حُمِلُوا , إِلَى ربك يومئذ المساق.

مَنْ لَكَ إِذَا أَلَمَّ الأَلَمُ , وَسَكَتَ الصَّوْتُ وَتَمَكَّنَ النَّدَمُ , وَوَقَعَ بِكَ الْفَوْتُ , وَأَقْبَلَ لأَخْذِ الرُّوحِ مَلَكُ الْمَوْتِ , وَجَاءَتْ جُنُودُهُ وَقِيلَ مَنْ راق.

وَنَزَلْتَ مَنْزِلا لَيْسَ بِمَسْكُونٍ , وَتَعَوَّضْتَ بَعْدَ الْحَرَكَاتِ السُّكُونَ , فَيَا أَسَفَا لَكَ كَيْفَ تَكُونُ , وَأَهْوَالُ القبر لا تطاق , وفرق مالك وسكنت الدار , وَدَارُ الْبَلاءِ فَمَا دَارٌ إِذْ دَارَ , وَشَغَلَكَ الْوِزْرُ عَمَّنْ هَجَرَ وَزَارَ , وَلَمْ يَنْفَعْكَ نَدَمُ الرِّفَاقِ.

أَمَا أَكْثَرُ عُمْرِكَ قَدْ مَضَى , أَمَا أَعْظَمُ زَمَانِكَ قَدِ انْقَضَى , أَفِي أَفْعَالِكَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّضَا , إِذَا الْتَقَيْنَا يَوْمَ التَّلاقِ , يَا سَاعِيًا فِي هَوَاهِ تَصَوَّرْ رَمْسَكَ , يَا مُوسِعًا إِلَى خُطَاهُ تَذَكَّرْ حَبْسَكَ , يَا مَأْسُورًا فِي سِجْنِ الشَّهَوَاتِ خَلِّصْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تَعِزَّ السلامة وتعتاق الأَعْنَاقُ , وَيُنْصَبَ الصِّرَاطُ وَيُوضَعَ الْمِيزَانُ , وَيُنْشَرَ الْكِتَابُ يَحْوِي مَا قَدْ كَانَ , وَيَشْهَدَ الْجِلْدُ وَالْمِلْكُ وَالْمَكَانُ , وَالنَّارُ الْحَبْسُ وَالْحَاكِمُ الْخَلاقُ , فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ , وَتَخْرَسُ الأَلْسُنُ وَتَنْطِقُ الْجُلُودُ , وَتَظْهَرُ الْوُجُوهُ بَيْنَ بِيضٍ وَسُودٍ , يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. فَبَادِرْ قَبْلَ أَنْ لا يُمْكِنَ , وَحَاذِرْ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْمُمْكِنُ , وَأَحْسِنْ قَبْلَ أَنْ لا تُحْسِنَ , فَالْيَوْمُ الْبُرْهَانُ وَغَدًا السِّبَاقُ.

فَانْتَهِبْ عُمْرًا يَفْنَى بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ , وَعَامِلْ مَوْلَى يُجْزِلُ الْعَطَايَا والأرباح , ولا تبخل فقد حدث عَلَى السَّمَاحِ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله باق} .

<<  <  ج: ص:  >  >>