وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا: أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَالِمٌ وَعَابِدٌ. فَالْعَالِمُ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ نَفْعِ النَّاسِ فَإِنَّهُ خَلَفُ الأَنْبِيَاءِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هِدَايَةَ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام: " وَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ". فَمَتَى مَا جَاءَ الشَّيْطَانُ فَحَسَنٌ لِلْعَالِمِ الانْقِطَاعُ عَنِ الْخَلْقِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَاكَ خَدِيعَةٌ مِنْهُ، وَلَقَدْ حَسُنَ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ......
دَفْنُ كُتُبِهِمْ وَمَحْوُ عِلْمِهِمْ وَهَذَا مِنَ الْخَطَإِ الْعَجِيبِ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْ شَرِّ مَنْ يُؤْذِي وَيُبْرِزُ لِمَنْ يَسْتَفِيدُ، فَظُهُورُهُ أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَابِدًا فَالْعَابِدُ لا يُنَافَسُ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ شَغَلَتْهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى رَجُلا مُتَعَبِّدًا فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ؟ قَالَ: مَا أَشْغَلَنِي عَنِ النَّاسِ. قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ الْحَسَنَ؟ فَقَالَ: مَا أَشْغَلَنِي عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ: فَمَا الَّذِي شَغَلَكَ عَنِ الْحَسَنِ؟ قَالَ: إِنِّي أُمْسِي وَأُصْبِحُ بَيْنَ ذَنْبٍ وَنِعْمَةٍ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَشْغِلَ نَفْسِي بِالاسْتِغْفَارِ لِلذَّنْبِ وَالشُّكْرِ للَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدِي أَفْقَهُ مِنَ الْحَسَنِ!
وَقَالَ رَجُلٌ لِعَامِرِ بْنِ قَيْسٍ: قِفْ فَكَلِّمْنِي. فَقَالَ: أُمْسِكُ الشَّمْسَ!
وَمِنَ الْقَوْمِ مَنِ اسْتَغَرَقَتْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأُنْسُ بِهِ فَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْخَلْقِ. قِيلَ لِغَزْوَانَ الزَّاهِدِ: لَوْ جَالَسْتَ إِخْوَانَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُصِيبُ رَاحَةَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ مَنْ عِنْدَهُ حَاجَتِي.
(تَعَبِي رَاحَتِي وَأُنْسِي انْفِرَادِي ... وَشِفَائِي الضَّنَا وَنَوْمِي سُهَادِي)
(لَسْتُ أَشْكُو بِعَادَ مَنْ صَدَّ عَنِّي ... أَيُّ بُعْدٍ وَقَدْ ثَوَى فِي فُؤَادِي)
(هُوَ يَخْتَالُ بَيْنَ قَلْبِي وَعَيْنِي ... هُوَ ذَاكَ الَّذِي يَرَى فِي السَّوَادِ)
فَهَؤُلاءِ عُزْلَتُهُمْ أَصْلَحُ لَهُمْ، بَلْ لا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلُهُمُ الْعُزْلَةُ عَنِ الْجَمَاعَاتِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ فَعَلُوا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَإِنَّمَا نَأْمُرُ الْعَوَامَّ بِاعْتِزَالِ الشَّرِّ، فَحَسْبُ فَإِنَّهُ الْجِهَادُ في حقهم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute