الحربي (١)، وكان يجلس إلينا غلامان وكأنهما روح في جسد؛ إن قاما قاما معًا وإن حضرا فكذلك، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما وقد بان الاصفرار بوجهه والانكسار في عينيه ... فلما كانت الجمعة الثانية حضر الغائب، ولم يحضر الذي جاء في الجمعة الأولى منهما، وإذا الصفرة والانكسار في لونه ... وقلت: إن ذلك للفراق الواقع بينهما، وذلك للألفة الجامعة لهما، فلم يزالا يتسابقان في كل جمعة إلى الحلقة، فأيهما سبق صاحبه إلى الحلقة لم يجلس الآخر ...
فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما فجلس إلينا، ثم جاء الآخر فأشرف على الحلقة، فوجد صاحبه قد سبق، وإذا المسبوق قد أخذته العبرة، فتبيَّنتُ ذلك منه في دائرة عينيه، وإذا في سيراه رقاع صغار مكتوبة فقبض بيمينه رقعة منها وحذف بها في وسط
(١) الإمام الحافظ العلامة إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي: مولده في سنة ثمان وتسعين ومئة. قال أبو بكر الخطيب: كان إمامًا في العلم رأسًا في الزهد عارفًا بالفقه بصيرًا في الأحكام حافظًا للحديث مميزًا لعلله قيمًا بالأدب جمَّاعة للغة، وأصله من مرو، قال أبو العباس ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة. قال الحاكم: سمعت محمد بن صالح القاضي يقول: لا نعلم بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد. قلت - والكلام للذهبي: يريد من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة وكان صدوقًا عالمًا فصيحًا جوادًا عفيفًا زاهدًا عابدًا ناسكًا، وكان مع ذلك ضاحك السن ظريف الطبع ... ولم يكن معه تكبر ولا تجبر، وربما مزح مع أصدقائه بما يستحسن منه ويستقبح من غيره، مات سنة خمس وثمانين ومئتين. [السير للذهبي (١٣/ ٣٥٦ - ٣٧٢)].