للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم، ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة، وأولهم الجعد بن درهم … » (١)

كما ذكر ابن القيم أن جميع الفرق الإسلامية قبل الجهمية، إذا تؤملت أصولهم، وجدت أنها كلها متفقة على تقديم الوحي على العقل، فلم يؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها المتكلمون، من تقديم عقولهم على نصوص الوحي (٢).

ويؤيد هذا ما حكاه الشهرستاني والصفدي عن الجهم أنه موافق للمعتزلة في إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع (٣).

كما يدل على منهجه هذا: مقالاته الكثيرة التي ليس عليها أدني دليل لا من الكتاب ولا من السنة، بل كلها مبنية على ما يزعمه أصول عقلية، وهي في الحقيقة أصول يونانية جاهلية.

فمثلا قوله في الإيمان وأنه مجرد المعرفة، وأخذه بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، إنكاره ما ورد من الكتاب والسنة من الأسماء والصفات، وإنكاره الشفاعة، وعذاب القبر، والصراط، وإنكاره للملائكة، وغير ذلك من عقائده، يدل


(١) انظر: درء التعارض (٥/ ٢٤٤).
(٢) انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (٣/ ٨٢١).
(٣) الملل والنحل (١/ ٧٤)، و: الوافي بالوفيات (١١/ ١٩٠ - ١٩١).
وهذه الجملة تحتمل معاني عدة:
الأول: القول بالتحسين والتقبيح العقليين، كما هو قول المعتزلة.
الثاني: وجوب معرفة الله تعالى بالعقل، بمعنى أن من لم يعرف الله قبل ورود الشرع فهو آثم ويستحق العذاب. وهذا هو أقوى الاحتمالات، لأن مسألة وجوب معرفة الله تعالى، أهو عقلي أم شرعي؟ من أشهر مسائل علم الكلام.
الثالث: أن هذه الجملة تشير إلى منهج جهم العام في تقديم العقل على النقل. وهذا، وإن كان أضعف من الاحتمال الأول والثاني، إلا أنه لازمه.
الرابع: حصول معرفة الله تعالى بالعقل، بمعنى أن معرفة الله تعالى أمر عقلي. وهذا الرابع -وإن كان يقول به الجهم-إلا أنه ليس مراد الشهرستاني، بدليل أنه قال إن جهما (موافق للمعتزلة) في هذا الأمر، مخالف للأشعرية، كما يدل السياق على ذلك. فالأشاعرة وافقوا المعتزلة في قولهم إن معرفة الله تعالى أمر عقلي، ولكنهم خالفوهم في وجوب المعرفة: هل هو شرعي أم عقلي؟ فثبت أن هذا المعنى الرابع ليس مراداً للشهرستاني، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>