إرادةُ ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقَّنٌ مصلحته، وأنه يُستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا، وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله، كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يوجد في كلامه صريحًا، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة، وهذا أمر يعم أهل الحق وأهل الباطل، لا يمكن دفعه، فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة، والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة، فإذا دُعي إلى غداء فقال: واللَّه لا أتغدى، أو قيل له: نم، فقال: واللَّه لا أنام، أو: اشرب هذا الماء، فقال: واللَّه لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي إلى آخر العمر.
والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون:{مَاذَا قَالَ آنِفًا}[محمد: ١٦]، وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء: ٧٨]، فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، والعلم بمراد المتكلم يُعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحَوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر» (١).
(١) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج ١، ص ٢١٨ - ٢٢٠ مع حذف ما لا حاجة إليه.