للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحين صارت الكراهية (١) هي المُقَدَّمة كان دخوله في العمل بقصد (٢) الْقُرْبَةِ يُشْبِهُ الدُّخُولَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمر، فأَشبه الْمُبْتَدِعَ الدَّاخِلَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ مأْمور بِهَا. فَقَدْ يُسْتَسْهَلُ بِهَذَا (٣) الِاعْتِبَارِ إِطلاق الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَسْهَلَهُ أَبو أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٤).

وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، أَو مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، أَو مَعَ اعْتِقَادِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ: أَشبه صاحبُه مَنْ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ قَصْدًا للتعبُّد بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ جارٍ عَلَى مُقْتَضَى أَدلة النَّدْبِ، وَلِذَلِكَ أَمر بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ، كَانَ نَذْرًا أَو الْتِزَامًا بِالْقَلْبِ غَيْرَ نَذْرٍ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَفَاءِ، وَلَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا.

وَلِذَلِكَ جاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: نَذَرَ أَن لَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَجْلِسُ، وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: "مره (٥) فليجلس وليتكلم ويَسْتَظِلّ (٦)، وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ" (٧).

فأَنت تَرَى كَيْفَ أَبطل عَلَيْهِ التعبُّد (٨) بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ البتَّةَ (٩)، وأَمره بِالْوَفَاءِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الأَصل، فَلَوْلَا أَنَّ لِلْفَرْقِ (١٠) بَيْنَهُمَا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مَفْهُومٌ. وأَيضاً فإِذا كَانَ الدَّاخِلُ مأْموراً بِالدَّوَامِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَن يَكُونَ الدُّخُولُ طَاعَةً، بلا بُدٍّ (١١)؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ ـ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ ـ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ في الشريعة. وعليه


(١) في (خ): "الكراهة".
(٢) في (خ): "لقصد".
(٣) في (غ) و (ر): "فقد" بدل "بهذا".
(٤) في حديثه المتقدم (ص١٤٩).
(٥) في (خ): "مروه".
(٦) في (خ): "وليستظل".
(٧) تقدم تخريجه (ص٢٨).
(٨) في (خ) و (م): "التبدع".
(٩) قوله: "البتة"، ليس في (خ).
(١٠) المثبت من (غ)، وفي باقي النسخ: "فلولا الفرق".
(١١) في (خ): "بل لا بد".