للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَصْلٌ

الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ

إِن مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها مُعَارَضٌ بِمَا دلَّ عَلَى خِلَافِهِ. فَقَدَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَو لَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ (١) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخر؟ فَيَقُولُ: "أَفلا أَكون عَبْدًا شكوراً (٢)؟ " ويظل في (٣) الْيَوْمَ الطَّوِيلَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ صَائِمًا (٤)، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ (٥)، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أُسوة حسنة، ونحن مأْمورون بالتأَسِّي به.

فإِن أَبيتم هَذَا الدَّلِيلَ بِسَبَبِ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَبُّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَكَانَ يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُهُ أُمته، فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وأَئمة الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الأَدلة الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ؟ حَتَّى إِن بَعْضَهُمْ قعد من رجليه (٦) من كثرة التَّنَفُّل (٧)، وصارت جبهة بعضهم كرُكْبة


(١) في (م): "غفر لك".
(٢) أخرجه البخاري (١١٣٠)، ومسلم (٢٨١٩) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(٣) قوله: "في" ليس في (خ) و (م).
(٤) أخرجه البخاري (١٩٤٥)، ومسلم (١١٢٢) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة.
(٥) أخرجه البخاري (٧٢٩٩)، ومسلم (١١٠٣/ ٥٨) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٦) في (م): "رحله".
(٧) في (خ) و (م): "التبتل".