للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ (١)، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لأَنه كَانَ أَولاً سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٢)، ثُمَّ إِنه أَقام لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلى اخْتِيَارِهِمْ؛ لأَنه قَالَ: وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل.

وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَن الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفضل، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ (٣) يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فأَطلق عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَرَى ـ نَظَرًا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وإِن كَانَ شهراً في السنة، أَو أَنه (٤) لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَو أَنه أَظهره فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي أَصله وَاقِعًا (٥) كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ "نِعْم" الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ (٦) صِيغَةُ التَّعَجُّبِ؛ لَوْ قَالَ: مَا أَحسنها مِنْ بِدْعَةٍ! وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً.

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبي أُمامة رضي الله عنه (٧) مستشهداً


(١) أخرجه البخاري (٢٠١٠) من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبَيّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله. اهـ.
(٢) يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (٧٢٩)، ومسلم (٧٦١) في قيامه صلّى الله عليه وسلّم في رمضان، وقيام أناس معه لما رأوه، فصنع ذلك ليلتين أو ثلاثاً، ثم لم يخرج لهم بعد ذلك، وقال: "إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل".
(٣) في (ر) و (غ): "منهم كثير".
(٤) في (خ): "وأنه".
(٥) في (خ): "واقعاً في أصله".
(٦) في (ر) و (غ): "يقتضيه".
(٧) الذي تقدم تخريجه (ص١٤٩).