للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ مَجَالُ نظرِ المُجْتَهِدين، والأَولى ـ عِنْدَ جَمَاعَةٍ ـ رعايةُ جَانِبِ المُحَرَّم؛ لأَن درءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ.

فإِذا كَانَتِ الْعُزْلَةُ مُؤَدِّيَةً إِلى السَّلَامَةِ، فَهِيَ الأَولى فِي أَزمنة الْفِتَنِ، وَالْفِتَنُ لَا تَخْتَصّ بِفِتَنِ الحروب فقط؛ بل (١) هي (٢) جَارِيَةٌ فِي الْجَاهِ وَالْمَالُ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُكْتَسَبات الدُّنْيَا، وَضَابِطُهَا: مَا صَدّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، ومثل هذا النَّظَر (٣) يَجْرِي بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِينَ.

وإِن كَانَتِ العزلةُ مُؤَدِّيَةً إِلى تَرْك الجُمُعات، وَالْجَمَاعَاتِ، والتعاون على الطاعات، وأشباه ذلك؛ فإِنها أَيْضًا سَلَامَةٌ (٤) مِنْ جِهَةٍ أُخرى (٥)، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بَيْنَ المأْمورات وَالْمَنْهِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، إِذا أَدَّى إِلى الْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ مَعْصِيَةٌ كَانَ تَرْكُهُ أَولى.

وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ ـ غَيْرَ أَنه مُشْكِلٌ ـ: مَا ذَكَرَهُ (٦) الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ إِلى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنه قال لمَعْن بن ثَوْر السُّلَمي (٧): هَلْ تَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الدِّيَارَاتِ؟ قَالَ مَعْن: ولِمَ؟ قال: إِنه لما أحدثت (٨) الملوك في دينها (٩) البدع، وضيَّعوا أَمر النبيين، وأكلوا الخنزير (١٠)، اعْتَزَلُوهُمْ فِي الدِّيارات، وَتَرَكُوهُمْ وَمَا ابْتَدَعُوا، فتَخَلَّوا للعبادة. قال حبيب لمَعْن: فهل لك؟ قال: ليس بيوم ذلك (١١).


(١) قوله: "بل" ليس في (خ) و (م).
(٢) في (م) و (خ): "فهي".
(٣) قوله: "النظر" ليس في (خ) و (م).
(٤) في (م): "سالمة".
(٥) في عبارة المؤلف اختصار شديد والذي يظهر من معناها: أن العزلة في بعض الأزمان قد تكون سلامة من الفتن؛ وإن كان سيترتب عليها فوات مصلحة الجمعات والجماعات والتعاون على الطاعات، فتقع الموازنة بين المصلحة الفائتة والمفسدة المدفوعة وترجح أولاهما بالتحصيل أو الدفع.
(٦) في (غ) و (ر): "ما ذكر".
(٧) قوله: "السلمي" ليس في (خ) و (م).
(٨) في (خ) و (م): "أحدث".
(٩) قوله: "في دينها" ليس في (خ) و (م).
(١٠) في (خ) و (م): "الخنازير".
(١١) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٥٩/ ٤٣٢) من طريق أحمد بن المعلى، عن العباس بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، نا ابن جابر وعبد الله بن العلاء بن زَبْر؛ قالا: سمعنا عطية بن قيس يقول: قال حبيب ... ، فذكره.=