على حفظ القرآن في المقام الأول، وإن كان كثير من العلماء يرى العلة في هذا النهي خشية اختلاط القرآن بالحديث، وربما كان من صواب الرأي أن يقال إن هذا
الاختلاط- لو رخص لهم النبيّ بكتابة أحاديثه الشريفة- مأمون من أدنى نظر بين الأسلوبين، إلا أن يكون النهي عن جمعهما في صحيفة واحدة إن أمن صاحبها اللبس- لمكان معرفته وتفريقه- في السورة الكاملة أو الآيات الكثيرة، فلعلّه لا يأمنه في آية، كان ينزل بها الوحي، أو إن أمن هو كل ذلك، فقد لا يأمن على من تقع هذه الصحيفة في يده في وقت لا حق! وبخاصة إذا كان الذي كتب مع الآية تأويلها.
يؤكد ما أشرنا إليه من توافر الجهود الرئيسة أو الكبرى- زيادة في التوثيق- أن الحديث لا يخشى عليه مثل هذا الضياع والرسول بين ظهرانيهم، وفرصة الإعادة وتجدد مناسبة القول مفتوحة، وفي وسع من أراد السؤال أن يسأل. ولهذا- وهذا استطراد لا بد منه- لا نجد أي فرصة لاستغراب كثرة رواية أبي هريرة مثلا مع تأخر إسلامه، بل لعل الشطر الأكبر من الأحاديث النبوية قالها النبيّ الكريم أو أثرت عنه بعد الهجرة؛ والوحي الإلهي يلقي على عاتقه مع آيات التشريع وتوسع الحياة الاجتماعية أضعاف ما خصّه من الدور مع الآيات المكية التي كانت تدور في معظمها حول قضايا العقيدة وقصص الأنبياء والأمم السابقين.
والنقاط التي يمكننا أن نفصّل فيها تفسيرنا السابق لموضوع النهي كثيرة، ونكتفي هنا بالقول: إن هذا النهي على كل حال يمثل لونا آخر من ألوان التوثيق في الكتابة يحسن التنويه به والإشارة إليه.
ثانيا- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه-:
يحدثنا زيد بن ثابت كاتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري- فيقول: «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (١) فإذا عمر بن الخطاب
(١) أي بعد مقتل من قتل في وقعة اليمامة، وهي الموقعة التي دارت بين المسلمين والمرتدين- من أتباع مسيلمة الكذاب- والتي استشهد فيها من القرّاء سبعون رجلا كما أشرنا إلى-