نكتفي في تأكيد هذه الظاهرة، بالحديث عن جانبين اثنين تنطوي تحتهما جوانب فرعية كثيرة لا مجال هنا للإفاضة فيها، والخروج بها إلى دائرة دلائل النبوة، وهي دائرة واسعة كتب فيها الكثير في القديم والحديث:
الجانب الأول- رحابة الموضوعات القرآنية:
إن أدنى مقارنة بين شمول الموضوعات القرآنية وتنوعها، وبين حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لا تدع مجالا للشك في أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا واسطة لعلم غيبي مطلق! ولقد جاءت الآية القرآنية الكريمة تشير إلى هذا الشمول والتنوع بقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام، الآية ٣٨].
وجاءت الآية الأخرى تخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)[سورة العنكبوت، الآية ٤٨].
وتأمره الآية الثالثة أن يقول: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)[سورة يونس، الآية ١٦].
إن جميع معارف عصر نزول القرآن- لا معارف النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعارف بيئته- ومعارف عصور لا حقة لا تمثل شيئا من شمول المعارف القرآنية وتنوعها وعمقها.
بل تصحيحها وتقويمها لتلك المعارف الإنسانية حتى ما كان منها سابقا لعصر نزول القرآن! فإن لم يكن هذا وحيا فأيّ شيء يكون؟
يقول الأستاذ مالك بن نبيّ- رحمه الله-:
«إن العبقرية الإنسانية تحمل بالضرورة طابع الأرض حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان! بينما يتخطى القرآن دائما نطاق هذا القانون ليشير من خلال رحابة موضوعاته إلى أن الذات المحمدية لم تكن إلا واسطة لعلم غيبي مطلق»!