لعل نظرية النظم القرآني، أو هذه الفكرة العميقة، والتي تتابع على تجليتها وإعطائها هذا البعد أو المعنى الناصع غير واحد من العلماء حتى استوت على سوقها عند الإمام عبد القاهر الجرجاني .. لعل هذه الفكرة أو النظرية أبرز ما قدمه القدماء من دراسات حول إعجاز القرآن، ولعل أحدا لم يقع قبل الجاحظ- رحمه الله- على هذه اللفظة ذاتها- نظم القرآن- سواء تردد مفهومها في أذهان هؤلاء الذين سبقوه أو فيما أثر عنهم أم لا.
وقد ألفت كتب متعددة تحمل هذا العنوان، بعد كتاب الجاحظ الذي وصفه هو في بعض كتبه، بما يشوق، ويحمل على الأسى أنه لم يصل إلينا (١)، مثل كتب أبي بكر السجستاني المتوفى سنة ٣١٦، وأبي زيد البلخي المتوفى سنة ٣٢٢، وأبي بكر أحمد بن علي (المعروف بابن الإخشيد) المتوفى سنة ٣٢٦. ولم يصل إلينا من جميع هذه الكتب، أو الرسائل شيء مع الأسف ...
ثم نجد أبا سليمان الخطابي المتوفى سنة ٣٨٨ يتحدث عن هذا الموضوع فيقول: «وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباطها بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله ثم يقول: «وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه. ولا
(١) راجع المقدمة القيمة التي صدّر بها الأستاذ المحقق السيد أحمد صقر رحمه الله كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر الباقلاني ص ٩ فما بعدها.