لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقى، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة» (١).
ثم يضرب لذلك أمثلة يوضح بها ما ذهب إليه، فيقول:«من ذلك لفظة «النّذر» جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا، فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوّه عن اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام؛ فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦)[سورة القمر، الآية ٣٦].
فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمّله، وتذوّق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد»، وفي الطاء من «بطشتنا»، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تماروا»، مع الفصل بالمدّ كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمّة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها؛ كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردّد نظرك في الراء من «تماروا» فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء «النّذر» حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون «أنذرهم» وفي ميمها، وللغنّة الأخرى التي سبقت الذال في «النّذر».
ثم يعقّب على هذه الآية بقوله: «وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في