للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإضافة إلى ما ذكر تفيد الزمان والمكان الذي نزلت فيه الآية، فتميز المكي من المدني، وتفصل الدعوى في الناسخ والمنسوخ حين يعرف المتقدم من المتأخر، وإلى جانب هذا كله، فإنها تعطي صورة واضحة عن مراحل الدعوة الإسلامية، في سيرها ومعالجتها للأحداث بوسائل مكافئة في كل حالة من الحالات، وهذه فائدة لا تعدلها فائدة لمن تأمل فيها في رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية، عبر مراحلها الزمنية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم.

نعم إن علم الأسباب في النزول يبين الفهم الصحيح للآية، ولا يزول الإشكال إلّا بذكره، وقد توافقت كتب علوم القرآن قديما وحديثا على ذكر هذه الأمثلة لتبين أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ويضبطنا من الوقوع في الزلل.

من ذلك ما ورد في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: ١١٥].

فإننا لو تركنا لظاهر الآية لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة لا سفرا ولا حضرا، وهو خلاف الإجماع، ولكن بمعرفة سبب نزولها يتبين لنا أن هذا المفهوم خاطئ، فقد روي في سبب نزولها أن القبلة عميت على قوم فصلّوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، فعذرهم الله بها، فالآية ترفع الحرج عمن صلّى باجتهاده إلى جهة ما يظنها القبلة، فبان له الخطأ بعد ذلك، وكأن الله سبحانه يقول: لا حرج فالجهات كلها لله، وحيثما توجهتم فثم وجه الله (١).

ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .. [البقرة: ١٥٨].

فقد فهم عروة بن الزبير رضي الله عنه، أن الآية نزلت لبيان عدم فرضية السعي بين الصفا والمروة، فإن عبارة «لا جناح في كذا» لا يستعمل في الدلالة على وجوب الصلاة والزكاة. مثلا «لا جناح في أداء الصلوات الخمس أو في إخراج الزكاة، وإنما تصلح هذه العبارة للتعبير عن الإباحة لأن هذا المعنى هو مدلولها اللغوي»:


(١) الترمذي ٤/ ٢٧٣، ونيل الأوطار ٢/ ٧٥.

<<  <   >  >>