العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زماننا ورجع إليه، وردّ وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، دراكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة ووقع في مداحضه ومزالقه».
ولما علم الزمخشري أن كتابه قد تحلى بهذه الأوصاف قال متحدثا بنعمة الله:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
وإذا كان الزمخشري قد اعتز بكشافه، وبلغ إعجابه به إلى حدّ يقول فيه ما قال من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنا نعذره في ذلك ولا نلومه عليه، فالكتاب وحد في بابه، وعلم شامخ في نظر علماء التفسير وطلابه، ولقد اعترف له خصومه بالبراعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التي يرجع أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال.
[اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:]
عند ما يلقي الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه، يظهر لنا من أول وهلة أن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسيرية، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها كبير الأثر في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله، والذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، وإنما لا نكاد نقطع- إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني