والبيان- بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالا في جهوده في هذا الصدد من تفسير الزمخشري.
ولقد كانت لعناية الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره من الأثر بين المفسرين، وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بيّن.
أما أثره بين المفسرين فإن كل من جاء بعده منهم- حتى من أهل السنة- استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتوا إليها لولاه، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبّه عليه الزمخشري من نكات بلاغية، تكشف عما دقّ من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه.
ثم إنا نستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أول الأمر عند ما تكلم عن قوله تعالى من أول سورة البقرة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب، نبّه على أن الواجب على مفسر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعاني ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعا لها، فقال ما نصه: « ... والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: إن قوله: الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ، رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ... وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك، أنه نبّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة ... ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ... ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة