للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال ابن عباس: «إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام»، يريد أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق، وذكر السيوطي عن ابن عباس عدة روايات أخرى تفيد نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا (١)، فهو حديث ورد عنه من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا. وهو وإن كان موقوفا على ابن عباس، إلا أن له حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. لما هو مقرر من أن قول الصحابي- فيما لا مجال للرأي فيه، إذا لم يكن معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات- حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم.

أما حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا قبل إنزاله مفرقا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي: أن إنزاله مرتين على وجهين مختلفين، مرة جملة واحدة، ومرة أخرى مفرقا فيه من الاحتفال به والعناية بشأنه ما ليس في إنزاله مرة واحدة على وجه واحد، ولا شك أن في المزيد من العناية به تعظيما لشأنه وشأن من نزل عليه، ثم إن وضعه في مكان يسمى ببيت العزة، يدل على إعزازه وتكريمه، ومن لوازم هذا تكريم المنزل عليه، وتفخيم شأنه، هذا شيء يمكن أن يقال في حكمة إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقا والله تعالى هو العليم بحقيقة السر في ذلك.

وقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الأقدمين والمحدثين منهم الشيخ الزرقاني (٢) والشيخ محمد أبو شهبة ونص عبارته: (ومعلوم: أن هذا لا يقوله «ابن عباس» بمحض الرأي، فهو محمول على سماعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ممن سمعه من النبي من الصحابة، ومثل هذا له حكم المرفوع، لأن القاعدة عند أئمة الحديث: أن قول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات فيما لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع، وبذلك ثبتت حجية هذه الآثار) (٣).


(١) الإتقان في علوم القرآن ١/ ١١٦ - ١١٩.
(٢) مناهل العرفان ج ١ ص ٤٥.
(٣) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٥١.

<<  <   >  >>