للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فِي الْمحل الَّذِي توالي عَلَيْهِم بأعظم مَا امتحن بِهِ قَاض قبله، وَذَلِكَ أَنه برز بهم عشرَة مرّة: حضر مَعَهم الْمَنْصُور مُحَمَّد بن أبي عَامر استسقاء وَاحِدًا، ولبوسه ثِيَاب بيض، وعَلى رَأسه أقرف وشي أغبر، على شكل أهل المصايب بالأندلس قَدِيما، قد أبدى الْخُشُوع، وَهُوَ باك، ودموعه تسيل على لحيته؛ فَتقدم إِلَى جنَاح الْمِحْرَاب عَن يَمِين الإِمَام، وَقد كَانَ فرش لَهُ هُنَاكَ حَصِير ليُصَلِّي عَلَيْهِ؛ فَدفعهُ بِرجلِهِ، وَأمر بنزعه، وَجلسَ على الأَرْض، وَشهد الاسْتِسْقَاء؛ فَلَمَّا تمّ، أَمر القَاضِي بتفريق صدقَات كَثِيرَة من مَال أَو طَعَام عَن خَلِيفَته وَعَن نَفسه. ولهجت الْعَامَّة بذم القَاضِي، واستبطاء الرَّحْمَة بوسيلته، وأطلقوا ألسنتهم بالطعن فِي دينه، وَوَصفه بالركون إِلَى ابْن أبي عَامر، وعابوه بِالْقبُولِ لهداياه، والاستساغة لعطيته؛ فَلَمَّا تكَرر بالاستسقاء وإبطاء الْغَيْث، هَاجَتْ الْعَامَّة فِي بعض بروزه إِلَى الربض، وثارت، فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ بعد إِتْمَامه الصَّلَاة، يعطعطون، وينكتونه بمعابه، وَيَقُولُونَ لَهُ: بئس الْوَسِيلَة أَنْت إِلَى الله تَعَالَى وَالشَّفِيع فِي إرْسَال الرَّحْمَة، إِذْ أَصبَحت إِمَام الدّين، وقيم الشَّرِيعَة {ثمَّ لَا تتورع عَن قبُول مَا يُرْسل بِهِ إِلَيْك من الْهَدِيَّة الَّتِي لَا تلِيق إِلَّا بالجبابرة} وأبدوا فِي ذَلِك، وأعادوا، وهموا أَن يبسطوا إِلَيْهِ أَيْديهم ويمتهنوه، حَتَّى لَاذَ مِنْهُم بالتربة المنسوبة إِلَى السيدة مرجان، بمقبرة الربض بقرطبة؛ وَكَانَت حَصِينَة الْأَبْوَاب، منيعة الأسوار، فَصَارَ فِيهَا، وأغلق أَبْوَابهَا عَلَيْهِ، واحتصن بهَا مِنْهُم؛ وَأرْسل إِلَى صَاحب الْمَدِينَة يستغيثه، فَأرْسل الفرسان والأشراط إِلَى ناحيته؛ فكشفوا عَنهُ من كَانَ قد تلفف بِهِ من الْعَامَّة، وفرقوهم، وَانْصَرف إِلَى دَاره سالما؛ وَقد لقى مِنْهُم أَذَى شَدِيدا. فَلَمَّا عاود البروز إِلَى الاسْتِسْقَاء بعد ذَلِك، أرسل الْمَنْصُور إِلَيْهِ خيلاً كَثِيرَة من عِنْده، أحاطت بِأَكْنَافِ الْمصلى عِنْد تَكَامل النَّاس فِيهِ قبل الصَّلَاة، استظهر بهم على شغب الْعَامَّة؛ فَلم يَجْسُر أحد من السُّفَهَاء على النُّطْق بِكَلِمَة شَرّ. وَكَانَ لَا يجلس للحكومة حَتَّى يَأْكُل؛ وَكَانَ مَوْصُوفا بِطيب الطَّعَام: لَهُ مِنْهُ وَمن الْحَلْوَاء والفاكهة وَظِيفَة مَعْلُومَة. وَكَانَ يَقُول: لَا شرف فِي لونين {وَرفع فِيهِ على مَا حَكَاهُ عِيَاض حَدِيثا لبَعض السّلف. ثمَّ قَالَ: توفّي رَحمَه الله} فِي رَمَضَان سنة ٣٨١. ومولده فِي رَمَضَان سنة ٣١٩.

<<  <   >  >>