للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعض١، وهذا يعطينا فكرة عن مقدار الخلاف بين أهل يثرب، وأنهم كانوا في حاجة إلى عنصر خارجي يجتمعون عليه، وهذا ما يسر للنبي -صلى الله عليه وسلم- مهمته في المدينة.

وفي المدينة أثبت مصعب بن عمير أنه جدير باختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فعلى نجاحها أو فشلها يتوقف مصير الإسلام في يثرب التي تموج بالخلافات وتضطرم فيها العصبية، فكان الداعي اللبق الفطن يدعو إلى سبييل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويأخذ الأمر بالأناة والصبر والرفق، وكان فتى اجتمعت فيه خصال قومه الحميدة وأهمها الحلم الذي سادت به قريش العرب. وبمثل هذه الأناة والصبر والموعظة الحسنة استطاع مصعب بن عمير أن ينشر الإسلام في يثرب، وأن يكتسب إلى جانبه أكبر زعيمين في قبيلة الأوس، وهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير اللذان كانا لإسلامهما أثر كبير في دخول بطون برمتها في حظيرة الإسلام، كما كانا بعد ذلك من أشد أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- إخلاصًا وتفانيًا في نصرة الدولة الإسلامية في يثرب٢.

وبذلك مهد مصعب السبيل في يثرب لدار يهاجر إليها المسلمون من مكة، ولتكون بعد ذلك دارًا يطمئن فيها الإسلام ويعتز فيه المسلمون، ثم تكون بعد ذلك قاعدة للدولة العربية الموحدة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم للدولة الإسلامية التي امتد لواؤها في مشارق الأرض ومغاربها في عهد الراشدين من بعده.

وبعد عام عاد مصعب إلى مكة ووفد معه في موسم الحج جماعة من المسلمين كان عددهم ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين، التقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الليالي سرًّا بالعقبة حيث بايعوه بيعة العقبة الثانية، ويحدثنا ابن إسحاق أنه قد حضرها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له٣، وهذا يدلنا على شدة الرابطة بين بني هاشم والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من دخولهم في الإسلام، هذه الرابطة التي ظلت بعد ذلك قوية وكان لها أثر واضح حين هاجر النبي ووقع الصراع بين مكة والمدينة، ومن أجل ذلك أطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس على الأمر، ومن أجل ذلك حضر العباس ليلة العقبة ليستوثق لابن أخيه.

وعند العقبة استوثق الطرفان كل لنفسه؛ فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد طلب أن يبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأما أهل يثرب فقد سألوه: أتراه تاركهم


١ ابن هشام ٢/ ٤٢.
٢ ابن هشام ٢/ ٤٢- ٤٦.
٣ نفسه ٢/ ٤٩.

<<  <   >  >>