للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وراجع إلى قومه إن هم فعلوا وأظهره الله، فطمأنهم بأن ذكر صيغة العهد الذي كانت تقولها العرب عند الحلف والجوار: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم"١. فلما تمت البيعة طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم أن يُخرجوا له من بينهم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا على قومهم كفلاء، وهو كفيل على قومه، فأخرجوا له تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس٢.

وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الثانية أو بيعة العقبة الكبرى أو بيعة الحرب. وهذه البيعة حددت الوضع القانوني للنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أهل يثرب، فهي قد اعتبرت النبي واحدًا من أهل يثرب دمه كدمهم وحكمه كحكمهم، وقضت ضمنًا بخروجه من عداد أهل مكة، فانتقلت بذلك تبعية النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى يثرب، وهذا النوع من تغيير الجنسية في تعبيرنا الحديث، ولهذا أخفى المسلمون أمر هذه الببيعة وأمر هذا الشرط وبخاصة عند قريش؛ لأن الفترة الواقعة بين هذه البيعة وبين وصول النبي إلى يثرب فترة لا يستطيع فيها اليثربيون أن يحموا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه بعيد عنهم، وقد اشترطوا فعلًا أن تبدأ حمايتهم له بعد وصوله إلى يثرب لا قبل ذلك. وكان في استطاعة أهل مكة بعد أن نبذهم النبي - صلى الله عليه وسلم- وخرج من عدادهم أن ينالوه بأي أذى؛ لأنه خرج عليهم ولأنه أصبح بذلك محرومًا من كل حماية قبلية.

وكان لقريش عيون أخبروها خبر البيعة، ولكن أهل يثرب ممن كانوا في موسم الحج ولم يعرفوا خبر العقبة، أكدوا لقريش عدم حدوث مثل هذا الأمر حين جاءت تستوثق مما بلغها، وبذلك استطاع المسلمون من أهل يثرب أن يعودوا إلى بلدهم آمنين؛ إلا أحد النقباء وهو سعد بن عبادة الخزرجي لحقته قريش؛ فقبضت عليه وكادت تبطش به لولا أن أجاره بعض أهل مكة ممن كان يجير لهم تجاراتهم في بلده.

ثم تسلل المسلمون من مكة أفرادًا وجماعات مهاجرين إلى يثرب، يستخفي بهجرته من يخشى على نفسه، ويستعلن بها من يجد في نفسه القدرة على التحدي، وحاولت قريش أن ترد من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به، وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إن كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من لم يطعها وتستطيع حبسه؛ لكنها لم تكن تقدر


١ ابن هشام ٢/٥٠.
٢ نفسه ٢/ ٥١-٥٥.

<<  <   >  >>