في حوادثه وخاضوا غمار الوغى فيه، وقد أدركوا الإسلام وكان لهم أثر ظاهر في حوادث المدينة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما كانت ذكريات هذا اليوم قد ظلت باقية في النفوس بين أهل يثرب، حتى لقد أوشك الحديث فيها يومًا أن يعيد العداوة بين الأوس والخزرج مرة أخرى١، فإنه مما لا شك فيه أنه يوم حقيقي وأن معظم ما وصلنا من أخباره صحيح. وقد سقنا أخبار هذا اليوم، كما سقنا أخبار اليوم الأول من حروب الأوس والخزرج، لنستطيع من ذلك أن ندرك الأسباب الحقيقية للنزاع الذي وقع بين الأوس والخزرج وشمل بطون المدينة كلها.
رأينا -من قبل- كيف أن النزاع الاقتصادي بين العرب واليهود قد أدى إلى تغلب العرب وانتقال السطلة إلى أيديهم، وانتشارهم في منطقة يثرب يتبوءون منها حيث شاءوا؛ لكن نظرة إلى مساكن الأوس والخزرج في منطقة يثرب تجعلنا ندرك أن هذا الغلب الذي أحرزه العرب لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار الأمور في المدينة، فلم تكن هناك خطة مرسومة سار عليها الأوس والخزرج في تملك الأراضي الزراعية، وإنما جاء الأمر -فيما يبدو- على غير تقدير مرسوم، فحدث أن احتل الأوس بقاعًا أخصب وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، ولذلك كان حتمًا أن يقع الخلاف بينهم ويحصل التنازع على نفس الغاية التي حدث عليها بين العرب واليهود من قبل.
ولما كان من مصلحة اليهود ألا تظل كلمة العرب واحدة، فيستمروا في الضغط عليهم حتى يجلوهم نهائيًّا عن منطقة يثرب، فإننا نرجح أنهم عملوا من جانبهم على الدس بينهم وتشجيع عوامل الفرقة وإذكاء روح التحاسد التي بدأت تظهر بين الأوس والخزرج حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم الثعالب؛ لما عرفوا فيهم من مكر وحيلة وخديعة، وفضلوا جوار إخوانهم -على ما بينهم من تنازع- عن جوار هؤلاء الثعالب. ولدينا رواية ذكرها ابن إسحاق تؤيد ما نتجه إليه، قال: ومرشاس بن قيس، وكان شيخًا قد عشا عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم.