للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية: فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد: لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتًى شابًّا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ... ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين..١، وهذه الرواية وإن ذكرها ابن إسحاق في حوادث ما بعد الهجرة، إلا أنها تعطينا فكرة عن الروح العامة لدى اليهود، وأنهم كانوا يرون في اجتماع كلمة الأوس والخزرج أمرًا مهددًا لكيانهم في المدينة فعملوا على تحطيم الاتحاد بين القبيلتين العربيتين، ونستطيع أن نقول: إن هذا الاتجاه هو الذي اتجه إليه اليهود بعد تغلب الأوس والخزرج عليهم في يثرب، وإن كانت الظروف قد اضطرتهم إلى أن تدخل بطونهم في أحلاف مع الأوس والخزرج كل بسبب ظروفه التي وجد فيها.

وقد بدأ التنازع بين الأوس والخزرج -بحسب الروايات التي سقناها- تنافسًا قبليًّا على الرياسة وعلى احتلال مركز الصدارة في يثرب، ولما كان تفوق العرب وانتصارهم على اليهود قد جاء على يد رجل من الخزرج أصبح له الذكر والشرف عليهم٢، كان طبيعيًّا أن يعمل الخزرج على الاحتفاظ بمركز الصدارة في المدينة، لكن حدث أن الأوس تملكوا أفضل البقاع الزراعية، وأصبح الوضع الاقتصادي في مصلحتهم لذلك لم يقبلوا أن تكون للخزرج هذه المنزلة عليهم، وساءهم أن يؤكد أحد الوافدين من رجال القبائل البدوية حول يثرب هذه المنزلة لزعيم الخزرج مالك بن العجلان، وأن يفاخر بذلك حليف لمالك على محفل من أهل المدينة، فترصده رجل من الأوس وقتله. وطالب مالك به، فعرضت عليه الدية بحسب الأصول القبلية المعروفة -وهي دية الحليف نصف دية الصريح- لكن مالكًا رأى أن يؤكد سيادته فأصر على ألا يقبل في حليفه إلا دية الصريح، ورفضت الأوس ذلك بطبيعة الحال، فاقتتل الفريقان، ثم تحاكموا فقضي لمالك بدية الصريح إرضاء له على أن يعود الأمر بعد ذلك إلى السنن المعروفة. لكن هذا الحل كان أمرًا موقوتًا، إذ إن دواعي الخلاف


١ ابن هشام ٢/ ١٨٣- ١٨٤.
٢ الأغاني: ٣/ ٤٠.

<<  <   >  >>