للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحقيقة بقيت خفية في النفوس لم يجرؤ أحد على إظهارها، وزاد الأمر تعقيدًا وقوع الدماء بين الطرفين، فشبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم، فتتالت الوقائع بين الفريقين في مظهر من مظاهر التنافس القبلي، كان النصر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى أحست الأوس بالضعف وبعدم قدرتها على الصمود بنفسها أمام الخزرج الذين بدا واضحًا أن نياتهم تتجه إلى الحصول على ما في أيديهم من الأرض الخصبة. ولما كانت الأوس تجاور قبيلتين قويتين من قبائل اليهود وهما قريظة والنضير اللتان استطاعتا الاحتفاظ بما في أيديهما من أفضل الأراضي الخصيبة وكانتا من القوة بحيث لم تدخلا في حلف مع إحدى القبيلتين العربيتين؛ فإنها فكرت في إقناع هؤلاء اليهود بالدخول معها في حلف للوقوف في وجه أطماع الخزرج التي تهدد الطرفين على السواء.

وحين أحست الخزرج بهذا الاتجاه الأوسي، أنذرت اليهود بالحرب إن هم انحازوا إلى جانب الأوس، ويبدو أن الخزرج كانت قد وصلت إلى درجة من القوة حتى أخافت اليهود، فخضعوا لهذا التهديد وقدموا رهنًا من أبنائهم ضمانًا لوفائهم بالتزام جانب الحياد، وحتى إن بطونًا من الأوس نفسها حالفت الخزرج ضمانًا لمصالحها.

وبذلت البطون الأوسية الغنية محاولات للصمود في وجه الخزرج لكنها باءت بالهزيمة، وحين عجزت عن الصمود وأيست من نصرة اليهود واتجهت إلى عنصر خارجي، فأرسلت وفدًا إلى مكة لاستعداء قريش على الخزرج١. لكن قريشًا كانت دائمًا تبتعد عن كل ما من شأنه أن يورطها أو يجرها إلى حروب قد تضر بمصالحها التجارية، فرفضت هذا الحلف الذي يشتم منه رائحة الدماء. واضطرت الأوس أمام هذا الفشل إلى الخضوع، كما اضطرت بعض بطونها إلى الخروج عن مساكنها أمام ضغط الخزرج.

غير أن الوضع ما لبث أن تغير فقد أسفر الخزرج عن نياتهم في الحصول على ما في أيدي قريظة والنضير من الأراضي والدور، وفعلًا أذنوهم بالحرب أو أن يسلموا


١ ابن هشام ٢/ ٣٦-٣٧، أسد الغابة ١/ ١٢٤، ١٥٨.

<<  <   >  >>