ما بأيديهم. ولم يكن هذا العمل من زعماء الخزرج -في هذا الوقت- ينطوي على شيء من الحكمة فإن هذا الموقف وحد بين الأوس واليهود من قريظة والنضير، إذ وجد هؤلاء أن عليهم إن أرادوا البقاء في يثرب أن يخوضوا ضد الخزرج معركة فاصلة، ولم يكن الخزرج بأقل منهم رغبة في خوض هذه المعركة لتأكيد سيادتهم ولتغيير لوضع الاقتصادي تغييرًا نهائيًّا، ولما كانت المعركة معركة حياة أو موت فقد حشد لها الطرفان كل إمكانياتهما واستجلبا حلفاءهما من قبائل البادية. ولما كانت المعركة بالنسبة للأوس وحلفائهم هي معركة الحياة فقد استماتوا في القتال وألحقوا بخصومهم هزيمة كبيرة، ولم ينقذ الخزرج من الكارثة إلا خشية الأوس من أن يستعيد اليهود مركزهم السابق في يثرب، فيضطر الأوس لمواجهتهم على انفراد لو قضي على قوة الخزرج، وفعلًا بدت نيات اليهود واضحة في تحطيم الخزرج وإذلالهم؛ ولذلك فضلت الأوس الاكتفاء بالقضاء على روح التسلط في الخزرج دون القضاء عليهم، ورأت أن جوارهم خير من جوار الثعالب.
وقد استغل أحد زعماء الخزرج -وهو عبد الله بن أبي- موقفه الحيادي الشخصي ولصالح قبيلته، فاستطاع أن يحمي أمواله من الاعتداء عليها، وأن يكسب لنفسه مركزًا أدبيًّا في هذا الجو المضطرب بين طوائف المدينة المختلفة، فاتجهت إليه أنظار الطرفين على السواء كرجل يمكن أن يكون واسطة التجميع وحل النزاع. كما أنه استطاع أن يضم إلى جانب قبيلته إحدى قبيلتي اليهود القويتين وهم بنو النضير، وبذلك حدث توازن بين المعسكرين المتخاصمين.
من كل ذلك نرى أن العامل الاقتصادي كان هو العامل المتحكم في العلاقات العامة بين السكان في يثرب. وحتى بين بطون القبيلة الواحدة أو بين عشائر البطن الواحدلم تستطع لحمة الدم أن تتغلب على الدوافع الاقتصادية التي كثيرًا ما كانت تثير النزاع بينها، وإذا كانت بطون الأوس أو بطون الخزرج كانت تتجمع تحت راية قبيلته في النزاع العام بحكم رابطة الدم، فإن كثيرًا ما كانت بطون من الطرفين ترى أن مصلحتها الاقتصادية تقتضيها التزام جانب الحياد، كما أنها كثيرًا ما كانت تتنازع فيما بينها فيحاول بعضها أن يستولي على ما في يد الآخر من الأراضي والدور، كما حدث مثلًا بين بني حارثة وبني عبد الأشهل وهما بطنان من فرع واحد من الأوس وهو