عددًا وأكبر من أن تكون سرايا عادية؛ وذلك لأن هذه القوات كانت تقترب من حدود بلاد تخضع لنفوذ دولة قوية هي دولة الروم، وأنه من المحتمل أن تشتبك مع قوات الغساسنة في بادية الشام.
عجزت القبائل منفردة أن تنال شيئًا من المدينة ولم تستطع أن تواجه سراياها وقواتها التي كانت تخرج لقتالها، فقد كان المسلمون يقاتلون على نظام وتعبئة بينما كانت القبائل تقاتل على غير نظام، وكانت قوات المسلمين تملك ناصية المبادأة دائمًا فلم تترك لعدوها فرصة لتنظيم نفسه، لكن خصوم المدينة ما لبثوا أن اتحدوا جميعًا لسحقها، فتجمعت قوات الأحزاب من قريش وغطفان وأشجع وسليم وأسد وغيرها، فهاجمت المدينة في جولة نهائية، ولكنها ارتدت عنها، وقد ازدادت فرقة وازدادت إدراكًا بعدم إمكانها القضاء عليها، كما أوضحنا ذلك في غزوة الأحزاب، واضطرت مكة إلى توقيع صلح الحديبية بعد ذلك، فأتاح ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرصة القضاء على قوة اليهود نهائيًّا في خيبر، وبذلك تغير الموقف نهائيًّا لصالح الدولة اليثربية، فبدأت القبائل تميل مع مصالحها، ولم يكد يمضي عام على فتح خيبر حتى كانت القبائل التي كانت تعادي المدينة، قد انضمت إليها، وبنفس الروح التي قاتلت بها يثرب، اتجهت إلى مكة، فكان جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة يضم أكثر من ثمانية آلاف مقاتل من رجال هذه القبائل.
اطمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الموقف السياسي في جزيرة العرب قد تحول نهائيًّا إلى جانبه، بعد أن أمن جناح الدولة اليثربية الجنوبي بعقد صلح الحديبية مع قريش، وأمن جناحها الشمالي بالقضاء نهائيًّا على قوة اليهود في غزوة خيبر. وانفسح أمامه المجال ليعمل في هدوء واطمئنان؛ لتوسيع نشاط دعوته، والخروج بها إلى طورها العام بعد أن مرت بالطور الخاص في مكة ثم في المحيط العربي.
والحق أن الدعوة الإسلامية كانت قد بلغت يومئذ من النضج ما يجعلها دين الناس كافة، فهي لم تقف عند التوحيد وما يقتضيه من عبادات، بل انفرج ميدانها وتناولت من صور النشاط الاجتماعي، ما يوازي بينها وبين سمو فكرة التوحيد، وما يجعل صاحبها أدنى إلى بلوغ مراتب الكمال الإنساني، وإلى تحقيق المثل الأعلى للحياة؛ فقد نزل كثير من الأحكام الاجتماعية، وبدأت تظهر واضحة صورة المجتمع الإنساني الذي يريده صاحب الرسالة، مجتمَعًا فاضلًا تقوم العلاقات فيه على أساس المساواة والعدالة والإخاء، فرسم التشريع في حدود هذه المثل العلاقات العامة والخاصة في الجماعة الإنسانية، فقدرت الحقوق والواجبات ونظمت الأسرة وحددت