للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان كبار الزعماء في قريش يرون التسليم دون قتال، وكان على رأيهم أكثرية قريش، والدليل على ذلك أن الذين اشتبكوا مع قوات المسلمين كانوا قلة وكان على رأسهم بعض الشباب وهم الذين أعانوا بني بكر من قبل، ولذلك فإن الثلاثة الذين خرجوا لا بد أنهم كانوا وفد التسليم وكانوا على اتفاق سابق مع العباس الذي خرج من مكة؛ ليمهد لهذا اللقاء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على علم بهذا الأمر، ولذلك قال لأصحابه وهو بالجحفة: "ذهب كلبهم وأقبل درهم، هم سائلوكم بأرحكامكم، وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه"١، الأمر الذي يقطع بأن العباس أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بنية أبي سفيان والاتفاق معه.

ومع ذلك فقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لدخول مكة أهبته وأعد للنصر كل عدته فقسم قواته إلى عدة فرق وأمرها أن تدخل مكة من كل مداخلها، وأمر رجاله بعدم القتال إلا إذا أكرهوا وحين بدا من بعض القادة ميل إلى العنف من أمثال سعد بن عبادة الأنصاري عزله عن القيادة وأحل ابنه محله٢. ودخلت قوات المسلمين مكة دون حرب، إلا ما كان من فرقة خالد بن الوليد التي تعرض لها من أجمعوا على القتال بقيادة عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمر الذين ما لبثوا أن تفرقوا بعد مناوشات بسيطة٣، وبدخول جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة سقط معقل المقاومة الأكبر وعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قريش عفوًا تامًّا٤، وحتى الذين منع عنهم الأمان لشدة خصومتهم ولؤم نكايتهم ما لبث أن منحهم إياه حين أعلنوا بالطاعة.

وهكذا استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكسب أكبر معركة في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير حرب وبغير إراقة دماء.

وكان لفتح مكة صدى بعيد الأثر في الجزيرة العربية وآثار بعيدة المدى من الناحيتين الدينية والسياسية على السواء.

فأما من الناحية الدينية: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تم له دخول البلد الحرام بدأ بالكعبة فطاف بها سبعًا، ثم أمر فحطمت الأصنام المقامة جميعًا. ثم دخل الكعبة فأزال ما بها من صور وتماثيل٥. وبهذا قضى على الوثنية في معقلها الأكبر قضاءً رسميًّا. ثم إنه


١ نفسه.
٢ ابن هشام ٤/ ٢٦. ابن كثير ٤/ ٢٩٢. إمتاع ١/ ٣٧٥.
٣ ابن هشام: نفسه.
٤ نفسه ٣٢.
٥ ابن هشام ٤/ ٢٢- ٢٧. إمتاع ١/ ٣٨٣، ٣٨٤.

<<  <   >  >>