للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الناس بعضهم ببعض، وصيانة حقوقهم وكرامتهم بل وحياتهم، فإن هذه العصبية الضيقة قد حالت دون تكوين مجتمع واحد كبير تصهر فيه جميع الوحدات القبلية، بل إنها على العكس من ذلك أوجدت مجتمعات صغيرة لكل منها كيانه السياسي الخاص؛ فغاية ما فكّر فيه العصبي الجاهلي من الناحية السياسية أنه إنسان ينتمي إلى قحطان أو عدنان، وذلك إذا تساهلنا وقلنا: إن مصطلحي "قحطاان وعدنان" ظهرا قبل الإسلام. بل حتى في صدر الإسلام كانت هذه النظرة الجاهلية الضيقة التي حاربها الإسلام لا تزال مستحوذةً على عقلية أكثر الناس، وقد عمل بها حتّى رجال الدولة الذين كان من واجبهم محاربتها ومقاومتها. وذلك لأغراض سياسية، وكان من نتائجها إضعاف القومية العربية واستغلال قحطان وعدنان لإسقاطهما على السواء. أما الأحلاف القبلية فلم تكن غايتهما قومية بعيدة وإنما كانت لمنافع ومصالح ذات أهداف ضيقة.

وكذلك ساعدت العصبية الضيقة على عدم الاستقرار؛ لكثرة الأطراف وحتمية التنازع بينها نظرًا لظروف البيئة العربية من الناحية الطبيعية والاقتصادية، وقد أدى التنافس والخلافات بين القبائل إلى الانزلاق في كثير من الأحيان إلى مستوى المنافسات التافهة، الأمر الذ ي أدّى إلى الشعور بعدم الرضا، وأوجد الرغبة لدى العقلاء وأصحاب الرأي إلى ضرورة توجيه العصبية توجيهًا قوميًّا ودينيًّا. وقد أحسّ المجتمع العربيّ بهذه الضرورة إحساسًا واضحًا قبيل ظهور الإسلام، وما إقرار هدنة الأشهر الحرام ومنع القتال فيها وإقرار الأمن، وكذلك الاتجاه نحو كثرة المحالفات وقيام الكتل الكبرى، ومحاولة رد العرب أنسابهم إلى أصل واحد أو أصلين كبيرين، إلا ظاهرة من ظواهر هذا الإحساس الذي أحس به المجتمع العربي كضرورة اجتماعية وسياسية، وكان ظهور الإسلام آخر الأمر متوِّجًا لهذا الإحساس العربي.

النسب

إذا كانت القبيلة قد اتخذت العصبية دستور حياتها، فإن هذه العصبية إنما هي ثمرة للنسب، فالعصبية آتية من فكرة القرابة وصلة النسب الحقيقي أو ما يجر مجراه من حلف أو ولاء أو جوار. وهذا المعنى هو الذي نعقد لإبرازه هذا العنوان. وقد كتب ابن خلدون فصولًا إضافية عن العصبية واتخذ النسب وصلة الدم أو ما يقوم مقامه أساسًا لها. وقد أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به

<<  <   >  >>