للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فحَمَلَ عليه بعضُ بني سُلَيْمٍ، فاستَطردَ لهم في طريق الظُّعْنِ، ثم عَطَفَ عليهم فقتلَ منهم جماعةً، فانجفَلوا بينَ يَدَيْه، ويَرْمِيه نُبَيْشَة بسهمٍ، فأَصابَ مأْبِضَ عَضُده، فلحقَ بالظُّعنِ يَسْتَدْمِي حتى انتهَى إِلى أُمّه أُمِّ سيَّارٍ، فقال: شُدِّي على يَدِي عِصَابةً. وهو يَرْتَجزُ ويقولُ:

شُدِّي عليَّ العُصْبَ أُمَّ سَيَّارْ

فقَدْ رُزِيتِ فارِساً كالدِّينارْ

يَطْعنُ بالرٌّمحِ أَمَامَ الأَدْبارْ

فأَجَابتْهُ أُمُّه:

إِنَّا بنُو ثَعْلَبَةَ بنِ مالكِ

مُرَزُّؤُو خِيَارِنَا كذلِكِ

مِنْ بَيْنِ مَقْتُولٍ وبَيْنِ هالِكِ

ولن يكونَ الرُّزْءُ إِلاّ ذلِكِ

وشَدَّتْ عليْه أُمُّه عِصَاباً، فاسْتَسْقاهَا ماءً، فقالت: أُفَّك، إِن شَرِبْت الماءَ مُتَّ، فقال ربيعةَ للظُعْن: أَوْضِعْنَ رِكَابَكُنّ حَتَّى تَنْتَهِينَ أَدْنَى بُيُوتِ الحيِّ، فإِنّي لِمَا بِي، وسوف أَقِفُ دونكنّ على العَقَبَة، وأَعتمدُ على رُمْحي، ولن يُقدِموا عليكنّ، لمكاني، ففَعلْن، ونَحَوْنَ إِلى مأْمَنِهنّ، وشَدَّ على القوم راجعاً، فقَتَلَ فيهم، ومازال يَذُبُّهم إِلى أَن نَزَفَه الدَّمُ، فاعتمدَ على رُمْحه. قال أَبو عمرٍو: ولا نعلم قتيلاً ولا مَيِّتاً حَمَى ظَعَائنَ غيرَهُ وإِنّه يومئذ غُلامٌ له ذُؤابةٌ، فما زالَ واقفاً على مَتْنِ فَرَسهِ مُعتمِداً على رمحه إلى أن مات، وما تَقْدُمُ القومُ عَلَيْه، فقال نُبَيْشةُ: إِنّه لَمَائلُ العُنُقَِ على رُمْحِه وما أَظُنُّه إِلا قد ماتَ، فرمَى فَرَسَه، فقَمَصَتْ وزَالَتْ، فسَقَطَ عنها ميِّتاً، وفَاتَهُم الظُعْنُ، ولَحِقُوا أَبا الفَرْعَةِ الحارِثَ بنَ مُكدَّمٍ فقتَلوه، وأَمَالوا على رَبِيعَةَ أَحْجَاراً، فمَرَّ به رجلٌ من بني الحارث بن فِهْرٍ، فنفرَت ناقتُه من تلكَ الأحجار، فقال يَرْثِيه ويَعْتَذِرُ ألا يكونَ عَقَر على قَبرِه، ويُعَيِّرُ مَن فَرَّ وأَسْلَمَه من قَوْمه، وتُروَى لحسَّانِ بن ثابتٍ:

نَفَرَتْ قَلُوصِي من حِجَارَةِ حَرَّةٍ ... بُنِيَتْ على طَلْقِ اليَدَيْنِ وَهُوبِ

لا تَنْفِري يا نَاقَ منه فإِنَّه ... سَبّاءُ خَمْرٍ مِسْعَرٌ لحُروبِ

لولا السِّفَارُ وبُعْدُ خَرْقٍ مَهْمَهٍ ... لتَرَكْتُهَا تَحْبُو على العُرْقُوبِ

فَرّ الفَوارِسُ عن رَبيعةَ بعدَمَا ... نَجّاهُمُ من غُمَّةِ المكروبِ

نِعمَ الفَتَى أَدَّى نُبَيْشَةُ بَزَّهُ ... يَومَ الكَديدِ نُبَيْشَةُ بنُ حَبيبِ

وجزع عليه عبد الله بن جِذْلِ الطِّعَانِ جَزَعاً شدِيداً ورَثاهُ بِعِدَّةِ مَرَاثٍ، منها:

خَلَّى عليَّ رَبِيعَةُ بنُ مُكَدَّمٍ ... حُزْناً يَكَادُ له الفُؤادُ يَزُولُ

فإِذا ذَكرْتُ رَبِيعَةَ بنَ مُكدَّم ... ظَلَّتْ لِذِكْراهُ الدُّموعُ تَسِيلُ

نِعْمَ الفَتَى حَسَباً وفَارِس بُهْمَةٍ ... يَرْدِي بشِكَّتِه أَقَبُّ دَؤُولُ

سَبَقَتْ به يَوْمَ الكَدِيد مَنِيَّةٌ ... والنَّاسُ إِمّا مَيِّتٌ وقَتِيلُ

كَيْفَ العَزَاءُ ولا تَزَالُ خَرِيدَةٌ ... تَبْكِي رَبِيعَةَ غادَةٌ عُطْبولُ

وقال أيضاً:

لأَطْلُبَن برَبِيعَةَ بنِ مُكدَّمٍ ... حتَّى أَنالَ عُصَيَّةَ بنَ مَعِيصِ

بِقِيَادِ كُلِّ طِمِرّةٍ مَمْحوصَةٍ ... ومُقلِّصٍ عَبْلِ الشَوَى مَمْحوصِ

وقال أيضاً:

أَلاَ للهِ دَرُّ بَني فِرَاسٍ ... لقَدْ أُوْرِثْتُمُ حُزْناً وَجِيعَا

غَدَاةَ ثَوَى رَبِيعَةُ في مَكَرٍّ ... تَمُجُّ عُرُوقُه عَلَقاً نَجِيعاً

فلَنْ أَنْسَى رَبِيعَةَ إِذْ تَعَالَى ... بُكاءُ الظُّعْنِ تَدْعُو يا رَبيعَا

وقالَ حسانُ بن ثابتٍ يَرْثِيه ويَحضُّ على قتَلَتِهِ:

سَقَّى الغَوَادِي رَمْسَكَ ابنَ مُكَدَّمٍ ... من صَوْبِ كُلِّ مُجَلجلٍ وَكّافِ

أَبْلِغْ بَنِي بَكْرٍ وخُصَّ فَوَارِساً ... لُحِفُوا المَلاَمَةَ دُونَ كلِّ لِحَافِ

<<  <   >  >>