وقد أَنصف الإِبِلَ الذي يقول:
أَلاَ فرَعى اللهُ الرَّوَاحِل إِنّمَا ... مَطَايَا قُلوبِ العَاشقِين الرَّواحِلُ
على أَنّهنّ الوَاصِلاتُ عُرَا النَّوَى ... إذا ما نَأَى بالآلِفينَ التَّواصُلُ
وقد ذمَّ قومٌ السُّفُنْ، لارتحالِ أَحبابِهم فيها، فمن ذلك قول بعضهم:
يوم ذَمِّي للْجِمَالِ ولَمْ ... أَدْرِ أَنْ قد بُدِّلَتْ سُفُنَا
هذا ذَمَّ الجِمَالَ، وتَوَهَّمَ أَنَّ أحبابه يَرتحِلون عليها، فجَلسوا في السُّفن، وساروا في الماء فصارَت السُّفُنُ أَحقَّ بالذَّمِّ من الجِمالِ.
وقُلتُ في مِثله:
ليْسَ لِلغِرْبانِ إِنْ صا ... حتْ برَبْعِ الدَّارِ ذَنْبُ
ولقدْ سُبَّتْ جِمَالٌ ... ظُلِمَتْ حِينَ تُسَبُّ
إِذْ نَأَى في السُّفُن الأَحْ ... بَابُ فالْتَاعَ المُحِبُّ
هِيَ غِرْبانُ فِرَاقٍ ... إِذْ بِها شُتِّتَ شَعْبُ
وأيضاً:
ذَمَّ أُنَاسٌ غُرَابَ بَينٍ ... إِذْ صاحَ في الرَّبْعِ بالبِعَادِ
والنُّوقُ ذُمَّتْ كمَا عليها ... يَرْتَحِلُ الحيُّ والبَوَادِي
والسُّفْنُ أَوْلَى بالذَّمِّ منها ... إِذْ ضُمِّنَتْ سالِبَ الفُؤادِ
ونحوُ ذلك قولُ بعض المحدَثين أَحسبه السُّيُوفيّ:
لَمّا رَأَيْتُ السُّفِينَ مُنْحدِراً ... أَبْعَدَ عنْ مُقْلتَيَّ إِغْفائِي
وَقَفتُ أَبكِي على سَوَاحِلهَا ... فمِن بُكائٍي زِيادةُ الماءِ
وأَيضاً نحوُه:
سارَ الحبيبُ وخَلَّفَ القَلْبَا ... يُبْدِي العَزاءَ ويُضمِرُ الكَرْبَا
قدْ قُلْتُ إِذْ سارَ السَّفينُ به ... والشَّوقُ يَنْهَبُ عَبْرَتِي نَهْبَا
لوْ أَنّ لِي عِزّاً أَصولُ بهِ ... لأَخذْتُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْبَا
وللحلَبيّ:
إِنّها فُرقةٌ تُذِيبُ القُلوبَا ... وتَرُدُّ الشُّبَّانَ لا شَكَّ شِيبَا
سَلَبَتْ قَلْبِيَ العزَاءَ فقد أَض ... حَى وأَمْسَى من العَزاءِ سَلِيبَا
ما تَرَى السُّفْنَ كيف تَعْلَو حَبَابَ الْ ... ماءِ مِثْلَ المَطِيِّ تَعْلُو الكَثِيبَا
وكَأَنّ المَلاّحَ إِذْ حَثَّ أُولاَ ... هُنَّ حادٍ غَدَا يَحُثُّ نَجِيبَا
[حنين الإبل]
وإِذا رَجَّعت الإِبلُ الحَنينَ كان ذلك أَحسنَ صوتٍ يَهتاجُ له المُفَارِقُون، كما يَهْتَاجُون لِنَوْح الحَمَام، ولِلَمْع البُرُوق، ولِهُبوب الرِّياحِ من نحو أَرضِ الحبِيبِ.
نزَلَ عُقَيلِيّانِ بزوجِ لَيْلى عَشِيقةٍ المَجْنُونِ فلمّا تَهوَّرَ اللَّيْلُ حَنَّتْ قلُوصاهما، فقال أَحدُهما:
تَحِنُّ قَلُوصِي نَحْوَ نَجْدٍ وقد أَرَى ... بعَيْنَيَّ أَنِّي لَسْتُ مُورِدَها نَجْدَا
ولا وَارِداً أَمْوَاهَ أَجْبُلَةِ الحِمَى ... وإِنْ أَرْهقَتْ نَفْسي على وِرْدِهَا جهْدَا
وقال العُقَيليُّ الآخرُ:
حنَّتْ قَلوصِي آخرَ اللَّيْلِ حنّةً ... فيَا رَوْعةً ما راعَ قلبي حَنِينُها
سعَتْ في عِقالَيْهَا ولاَح لِعينها ... سَنَا بَارِقٍ وَهْناً فجُنّ جُنُونُهَا
فمَا برِحَتْ حتّى ارْعَوَيْنَا لِصَوْتِهَا ... وحتَّى انْبَرَى مِنّا مُعِينٌ يُعِينُها
تَحِنُّ إِلى أرضِ الحِجازِ صَبَابَةً ... وقد بُتَّ مِن أَهْلِ الحِجَازِ قَرِينُها
فيا رَبِّ أَطْلِقْ قَيْدَها وجَرِيرَها ... فقد رَاعَ مَنْ بالمَسْجِدَيْنِ أَنِينُها
فقالت ليلى:
لعَمْرِي لقدْ هاجَتْ عَلَيَّ صَبَابةً ... قلُوصُ العُقَيْلِيَّيْنِ لَيْلَةَ حَنَّتِ
قَعَدْتُ لها واللَّيْلُ مُلْقٍ روَاقَهُ ... فجَاوَبْتُهَا حتَّى مَلِلْتُ ومَلَّتِ
ولبعض العرب:
يَحِنُّ قَلوصي ذو الخَباطِ صَبَابةً ... وشِدَّةَ وَجْدٍ مِن تَذكُّرهِ تَجْدَا