وظَلَّ لهُم يَومٌ بمُخْتلِفِ القَنَا ... عَصِيبٌ على ذِي النَّجْدَةِ المُتَبَاسِلِ
وقال السفّاحُ بن خالدٍ لمّا رَجعَ إلى قومه:
وكَتِيبة لَفَّفْتُهَا بكَتِيبةٍ ... شَهْبَاءَ باسِلةٍ يُخَافُ رَدَاهَا
خَرْسَاءَ ظاهِرَةِ الأَدَاةِ كأَنّها ... نَارٌ يُشَبُّ سَعِيرُهَا بلَظَاهَا
فيها الكُمَاةُ بَنُو الكُمَاةِ كأَنهُمْ ... والخَيْلُ تَعْثُرُ في الوَغَى بقَنَاهَا
شُهُبٌ بأَيْدِي القَابسِينَ إِذَا بَدتْ ... بأَكُفِّهِمْ بَهَرَ الظَّلامَ سَنَاهَا
مِنْ كُلِّ أَرْوَعَ مَاجِدٍ ذي مِرَّةٍ ... أَنَّى إِذَا لَحِقَتْ خُصىً بكُلاَهَا
وعِصَابَةٍ شُمِّ الأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلاً وقَدْ مَالَ الكَرَى بطُلاَهَا
فسَرَيْتُ في وَعْثِ الظَّلاَمِ أَقُودُهمْ ... حتَّى رَأَيْتُ الشَّمْسَ زَالَ ضُحَاهَا
وغَشِيتُ قَيْساً في القَلِيبِ غُدَيّةً ... وطَعَنْتُ أَوَّل فارِسٍ أُولاَهَا
وضرَبْتُ في أَبْطَالهِمْ فتَجَدَّلُوا ... وحَمَلْتُ مُهْرى وَسْطَهَا فحَمَاهَا
حَتَّى رَأَيتُ الخَيلَ بَعْدَ سَوَادِهَا ... كُمْتَ الجُلُودِ خُضِبْنَ مِنْ جَرْحَاهَا
يَعْثُرْنَ في عَلَقِ النَّجِيع وتَارَةً ... وَسْطَ العَجَاجِ يَطَأْن مِنْ صَرْعَاهَا
قُلْ لابْنِ لأْيٍ هَلْ ثَأَرْتُ بمَعْشَرِي ... أَمْ هَل مُغَاوَرَةٌ ولا أَغْشَاهَا
للهِ درُّ بني زُهَيْرٍ في الوَغَى ... يَوْمَ الطِّعَانِ إِذَا انْتَمَى قِرْنَاهَا
يومٌ لتَغْلِبَ على هَوَازِنَ
خَرجَ السَّفَّاحُ بن خالِدٍ في خَيْلٍ كَثٍرةٍ من بني تَغلبَ، يُريد الغارةَ على بني تَمِيمٍ، فلما جاوَزَ بُيوتَ الحَيِّ عارَضَهُ راكِبٌ في سَوادِ اللَّيْل، يَتغَنَّى ويقولُ:
هلْ من رَسُولٍ إلى السَّفّاحِ يُخْبِرُه ... أَنَّ القَبِيلَيْنِ مِنْ نَصْرٍ ومن جُشَمِ
سَارُوا إِلى الخَيْفِ أَنْصَاراً لإِخْوَتِهمْ ... فالدّارُ تنْعشُ بالنِّسْوانِ والنَّعَمِ
إِمّا تَنَلْهُمْ بأَمْرٍ كُنْتَ تَأْمُلُهأَو يَسْبِقُوا تَنْهَسِ الكَفَّيْنِ مِنْ نَدَمِ
إِنّي إِذَا ذَكَرَتْ نَفْسِي غَنِيمَتَهمْ ... جَاشتْ إِليَّ ولَيْس الأَمْرُ بالأَمَمِ
لَسْنَا ِإلى جُشَم نَهْدِي رِيَاسَتَها ... يَا بْنَ الكِرَامِ ولاَ عَمْرٍو ولا عُصَم
فقال السفّاحُ: من أَنت؟ قال: رجلٌ من خَثْعَم، كنتُ جاراً لبني جُشَمَ وإِنَّهُم ساروا ليَنْصروا هَوَازنَ على قَوْمِي، فعاهَدْتُ الله أَن أَقُود إِليهم فُرْسانَ تَغلبَ، فكُنْتَ رَئِيسَها وزِمامها، فقال: ما أَرَدْنَا غَيْرَ تميم، وإِنَّ عَهْدَنَا بهَوازِنَ لقَرِيبٌ، ولكنّا مُشَفِّعُوك بحَاجتِك، فسِرْ أَمَامَنَا. فقال عِكَبُّ بن عِكَبِّ بنِ كِنَانةَ بنِ تَيْمٍ: تَثَبَّتْ يا بنَ خالدٍ، لعلَّهَا خَدْعَةٌ، فقال له: عَنَّا يا عمّ، فلعَمْرِي لقَدْ لاقَيتُ جِمَارَ هَوازِنَ في اَقلَّ منِ عَدَدِنَا، فما كانُوا عنْدي إلاّ شَحْمَةَ شَاوٍ، فكيف وأَنتم فُرْسانُ تغْلِبَ وجمْرَتُهَا؟ سِرْ يا خَثعميًّ أَمامَنا، فسارُوا حتّى صبّحوهم على ماءٍ لهم، وقد اجتمَعتْ كَعْبٌ وكِلابٌ ونَصْرٌ وجُشَمُ وغُدَانَةُ مَخَافَةَ الغَارةِ عليهم، ورَئيسُ القَوْم عُمَارَةُ بن مالِكٍ، فاقتتَلوا قتالاً شديداً، وحَمَل عُمَارَةُ على السَّفّاح فطعَنَهُ فصرَعَهُ، ومالَتْ خَيْلُ القوْمِ عليْه، وحامَتْ بنو زُهَير على السَّفَاحِ حتى اسْتنقَذوه، فرَكِبَ فَرسه مُغْضباً، فشَدّ على عُمَارَةَ فاختلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطعنَه السَّفّاحُ فدقَّ القَنَاةَ فيه، وثَنَّى بالسَّيْف فقَتَله، وتَنَادَى القَوْمُ على دَمِه، فقُتِل منهم خَلْقٌ كثيرٌ، وحمَلَ غَنْمُ بن مالكٍ المُعاوِيّ عبدِ الله بن كَعْبِ بن ضبَابِ بن كِلاَبٍ حتى قًتِل، فانكشَفوا انكشافاً قَبيحاً، وحازَ السفّاحُ ما في الدَّارِ من نَعَمْ، وسَبَى سَبْياً كثيراً.