للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخلاف الوارد في زكاة الحلي والراجح فيه]

حسناً! لا فرق في الذهب بين أن يكون نقداً كالجنيهات التي يتبايع الناس فيها، أو سبائك أي: قطع من الذهب، وهذه تكون عند التجار الكبار يتبايعونها، أو حلياًَ من الذهب على القول الراجح من أقوال أهل العلم، أن الحلي ولو كان يستعمل ففيه الزكاة، ودليل هذا عمومات الأدلة الدالة على وجوب زكاة الذهب والفضة بدون تفصيل، والأصل في الأدلة والاستدلال بها أن ما جاء عاماً فالأصل دخول جميع الأفراد فيه إلا ما دل الدليل على استخراجه وتخصيصه، وهذا قاعدة مسَلَّمة دلت عليها اللغة العربية، ودلت عليها السنة النبوية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض) من أين أخذنا هذا؟ من صيغة العموم، أنها شملت جميع أفراد الصالحين، حتى الملائكة والجن وغيرهم، فدلَّ ذلك على ماذا؟ على أن العام يشمل جميع أفراده.

فإذا كان كذلك قلنا: إن الذهب المستعمل حلياً دخل في العموم، فهو فرد من أفراده، فمن أخرج الحلي من الذهب والفضة عن وجوب الزكاة فعليه الدليل.

نحن تتبعنا أقوال أهل العلم منذ زمن، سواء الرسائل التي أُلِّفت حديثاً، أو كلام العلماء الأولين، لم نجد عندهم دليلاً عن معصوم، إنما هي آثار عن الصحابة مُعارَضَةٌ بمثلها، والميزان عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:٥٩] .

ويقول عزَّ وجلَّ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] .

فهم استدلوا بآثار صحيحة؛ لكن عن غير معصوم -عن بعض الصحابة- وهي معارضة بأقوال آخرين من الصحابة، استدلوا بأحاديث ضعيفة، ولا يقولون بها أيضاً، استدلوا بحديث جابر: (ليس في الحلي زكاة) وفيه عافية بن أيوب وهو ضعيف، وهو هالك عند بعض العلماء المحدِّثين، وهم أيضاً لا يقولون بهذا الحديث؛ لأننا لو أخذنا بالحديث لكان الحلي لا زكاة فيه مطلقاً، وهم يقولون: إنه إذا أُعد للإجارة ففيه الزكاة، وإن أُعد للنفقة ففيه الزكاة.

إذاً: لم يأخذوا بهذا الحديث مع ضعفه، فلماذا يأخذون به في بعض الصور، ويدعونه في بعض الصور؟! واستدلوا بأقْيِسَة قالوا: كما أن ثياب الإنسان أو ثياب المرأة ليس فيها زكاة فكذلك حُلِيُّها؛ لأن الكل لباس.

وهذا القياس مردود من وجهين: الوجه الأول: مخالفته للنص.

والوجه الثاني: تناقضه.

إذا قالوا: النص يجوز تخصيصه بالقياس.

قلنا: نعم، صدقتم! النص يجوز تخصيصه بالقياس، ومنه: قياس العبد إذا زنى على الأَمَة إذا زنت، الأَمَة إذا زنت كم تُجلد؟ نصف ما على المحصنات من العذاب، ولم يذكر الله زنا العبد؛ لكن بالقياس على الأمة، فهو مخصص لعموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢] .

ونحن لا ننكر أن يكون القياس مخصِّصاً؛ لكن إذا كان في مقابلة النص فلا نقبله، وما هو النص؟ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مُسكتان غليظتان من ذهب -المُسَْكَتان هما: السواران- قال: تؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا.

قال: أَيَسُرُّكِ أن يُسَوِّرَك الله بهما سُوارَين من نار؟! فخلعتهما وألقتهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: هما لله ورسوله) غضبت لله، فتركتهما، كما فعل سليمان حين غضب لله حينما ألهته الخيل عن صلاة العصر، فجعل يضرب سوقها وأعناقها غضباً لله, فهي فعلت ذلك حرمت نفسها من هذين السوارين غضباً لله عزَّ وجلَّ.

فهذا الحديث نص مؤيد بالعمومات الثابتة في الصحيح، مثل: حديث أبي هريرة: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ... ) وقد أشرنا إليه في الدرس الماضي.

فإن المرأة التي عندها حلي من الذهب يُقال: إنها صاحبة ذهب؛ حتى في عرف الناس، يقال: هذه المرأة عندها ذهب، فهي صاحبة ذهب.

وما الذي أخرجها؟! قالوا: أخرجها، أن في بعض الأحاديث: (وفي الرِّقَة ربع العشر) الرِّقَة: الفضة المضروبة عند أكثر أهل اللغة، وعند بعض أهل اللغة أن الرِّقَة: الفضة مضروبة كانت أو لا، وممن ذهب إلى هذا الرأي: ابن حزم، قال: إن الرِّقَة هي: الفضة مطلقاً، وقال: إن الزكاة في الحلي واجبة بهذا الحديث نصاً.

إذاً: فالقياس الذي ذكروه لا يُقبل لوجهين: الوجه الأول: مصادمة النص، والقياس المصادم للنص يسمى عند الأصوليين: فاسد الاعتبار، لا عبرة به.

الوجه الثاني: أن هذا القياس الذي زعموه متناقض، لا في طرده ولا في عكسه.

نقول لهم: ما الأصل في الثياب؟ أوُجُوب الزكاة أم لا؟

الجواب

لا، عدم الوجوب.

ما الأصل في الذهب؟ الوجوب.

إذاً: كيف نقيس ما الأصل فيه الوجوب على ما الأصل فيه عدم الوجوب؟! ثانياً: لو أُعِدت الثياب للتأجير فعندهم لا زكاة فيها، كالعقار المعد للتأجير، ولو أُعِد الحلي للتأجير ففيه الزكاة! إذاً: أين القياس؟! لو أُعِدت الثياب للنفقة، معنى النفقة: امرأة عندها ثياب كثيرة، كلما احتاجت باعت وأكلت، فليس فيها زكاة، ولو أعدت حلي الذهب للنفقة، كلما احتاجت باعت منه وأكلت، ففيه الزكاة.

إذاً: أين القياس؟! لو أن المرأة التي عندها حلي عَدَلت عن لبسه ونوته للتجارة صار للتجارة، ولو أنها عَدَلت عن لباس الثياب ونوتها للتجارة لم تكن للتجارة عندهم؛ لأنه يشترط للتجارة أن يكون الإنسان مَلَكَها بفعله بنية التجارة.

إذاًَ: أين القياس؟! فتبيَّن أن دعوى القياس غير مقبولة لوجهين: الوجه الأول: مصادمة القياس للنص الوارد.

والثاني: تناقضه.

نعم.

إذاًَ: لا قياس.

والمسألة -كما يعلم طلبة العلم- خلافية بين العلماء من قديم الزمان؛ ولكن الواجب على طالب العلم أن ينظر في الأدلة، وأن يأخذ بما ترجح عنده، والواجب على العامة أن يتْبَعوا من يرونه أقرب إلى الحق بعلمه وأمانته.

<<  <  ج: ص:  >  >>